عدد القراءات: 1618

عيال الله

 

الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله

لم تكن رواية هذا الحديث تثير أي معنى استفزازياً خلال التاريخ الإسلامي، وكان مصطلح عيال الله يحظى باحترام كبير بوصفه مدخلاً دقيقاً للوصال بين عباد الله وبناء مساحة لقاء ووصال بين العبد وبين الرب.

ولكن هذا المصطلح -ومع تنامي التيار السلفي- أصبح يتعرض باستمرار لنقد شديد بوصفه احد أشكال التشبيه بين الله وعباده، فالعيال ابن وأخ وأم وأب تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ويرى هؤلاء أن هذا الوصف مؤامرة على التوحيد يقصد بها التزلّف للنصارى والأديان الشرقية التي تعزز مكان البشر أسرة واحدة تحت الله، فيما يتعين علينا أن نطالب بإله يعرفه المسلمون ويجحده كل البشر، ويعتقدون فيه عقيدة الزيغ والباطل، وأن الإنسانية ليست أسرة واحدة وليست عيالاً لله، بل إن التوحيد يفرض الولاء للمسلمين والبراء من المشركين، والمشركون هنا هم كل البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها وعقائدها، حيث يتم اعتبارهم جميعاً عقائد زيغ وضلال وشرك بتعين البراءة منها وبغض أتباعها في الله.

 

ويرى هؤلاء أنه يجب رد مثل هذه الأحاديث التي توهم أن الله والعالم أسرة واحدة، وعلى الرغم من أن الحديث روي في أربعة على الأقل من الكتب الأصول (الطبراني والقضاعي والحارثي وأبي يعلى) ولكن قلم التحقيق السلفي حشره في زاوية النصوص المخالفة للعقيدة، والتي لا بد من إبطالها وردها، وأفضل الطرق لذلك هو رد الإسناد وتوهينه ودحره، والحديث إذن منكر بالكلية.

قناعتي ان هذا الأسلوب لتنزيه الله تعالى لا يفيد في بناء علاقة حب وشوق بين الله والعبد، ويكرس مكان الله تعالى خالقاً مفارقاً يتعالى على عباده ويتكبر عليهم ويتجبر، ولا يتصل بعباده ولا يتصل به عباده، وقد انقطع ما بينهم وبينه من خطاب السماء منذ قرون طويلة، وأن الله متكبر منتقم قاهر، ذو البطش الشديد والغضب المريد، لا يصيب بطشه الذين ظلموا خاصة بل يصيب البلد الخاطئة بما جناه العصاة فيها فيقلب عاليها سافلها ويمطرها حجارة من سجيل منضود.

لا أشك أن هذا التوجه السلفي الجاف لفهم الربّ سبحانه موجود في ظاهر نصوص الكتاب والسنة بالأدلة، ويمكن للقوم أن يمطروك بما شئت من نصوص التوحيد التي توجب التسليم المطلق: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة أراك ضالاً أخرجوه.....

ولكن المعاني الأخرى التي أرادتها الصوفية في التعريف بالله تعالى رحماناً ودوداً قريباً لطيفاً شاكراً صبوراً متجلياً متدلياً، هي أيضاً معاني منصوص عليها في القرآن والسنة، ويمكن الاستدلال بها لكل ما نبتغيه من خطاب اللطف والمواصلة بين الله وعباده.

في غمرة جقاق علم الكلام، وصرامة النص التوحيدي، وحزم المعاني التفويضية تغيب صفات أخرى لله تعالى تتصل بلطفه ووده ورحمته وغفرانه وتسامحه، وهي موجودة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وترانا نقف قبلها موقف الريبة والحذر ولا نجرؤ أن نروي ظاهرها إلا على سلسلة من الاحتياطات والحذر.

وقد حسمت هذه المسائل بنصوص حازمة صلبه: إثبات بلا تمثيل تنزيه بلا تعطيل، المعطلة يعبدون عدماً والمجسمة يعبدون صنماً، وهي عبارات متراصفة تحسم بشكل صارم كل أفق للتدلي بين الله والناس.

ولكن القرآن الكريم لا يلتزم هذه القواعد المتأخرة لعلماء الكلام، وفي القرآن الكريم عيون الله تعالى ويده وساقه ووجهه وتدليه وتجليه.

فأخبر عن موسى بقوله: ولتصنع على عيني، وأخبر عن البيعة بأن يد الله فوق أيديهم، وأخبر عن ساق الله بقوله: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وأخبر عن تجليه بقوله: فلما تجلى ربه للجبل، وأخبر عن تدليه بقوله: قم دنا فتدلى.......

وفي القرآن الكريم الله الصبور والله الشكور والله الحميد والله الشاكر والله الحامد والله الذاكر والله الولي والله القريب والله الودود.

 

وفي السنة النبوية أصابع الله تعالى ويمين الله وأذن الله ورجل الله

فقال القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وقال: الحجر الأسود يمين الله في الارض، وقال ما أذن ربكم لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن، وقال: يضع رجله في النار.

وفي السنة النبوية ذكر الله الضاحك، والله الفرحان، والله الغاضب والله السعيد والله المتعجب.

فيقول ضحك ربكم من قنوط عباده وقرب غيره، وقال: لله أشد فرحاً بتوبة العبد، وقال: ألا أدلكم على ما تتقون به غضب ربكم، وقال: عجب ربكم من إياسكم وقنوطكم.

 

ليس هذا درساً في اللاهوت ولن تكون هذه الصفحة مناسبة للاهوت، ولكنها محاولة لمواجهة التفكير السلفي الصارم في مسائل العقائد الذي رفع عقيرته بتكفير الصوفية لتهاونهم في مسائل الاعتقاد، ثم يتولى تكفير الفرق الإسلامية الأخرى التي لا تتطابق في الفهم الاعتقادي، وتكفير التيارات العلمانية لأنها تقول بخلق القرآن، وتكفير الأديان جميعاً لأنها لا تلتزم تفاصيل مسالة التوحيد كما نص عليها المحققون من فقهاء السلف.

ما أردت أن أقوله هو أن القرآن الكريم أوسع من هذا وأنه يشتمل على خيارات تجلّ وتدلّ وقرب بين الله وبين العبد، لا يرضاها شيوخ علم الكلام، وفي موقف جد صادم لأوهام الإقصاء والصرامة الاعتقادية الحادة أخرج البخاري في الصحيح أن رسول الله قال فيما يرويه عن ربه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وعينه التي يبصر بها ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها!!!

 

لا يوجد كلام في التشبيه والتمثيل أجرأ من هذا ولو أن راويه غير البخاري لتوالوا على تكفيره وتبديعه وتفسيقه، وفي البخاري من هذا أيضا قوله: وإذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت منه ذراعاً وإن تقرب إلي دراعاً تقربت منه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة!!!

ولا نحتاج إلى أي تنبيه لنذكر بما في هذا الحديث من نقض مباشر لنهج جفاة السلفية، من "أهل الصارم المسلول على أهل التشبيه والحلول" و "قامع الإلحاد في مسائل الاعتقاد"، حيث يبدو النبي الكريم هنا من غلاة الصوفية والقائلين بالحلول والاتحاد، يصف الله بأنه يقترب شبراً وباعاً ويمشي ويهرول!! وهي تهم كانت ستطال بكل تأكيد من يقرا هذا الحديث أو يجرؤ على روايته لو لم يكن في صحيح البخاري!!

نحن من صنعنا التابو الأسود حول مسائل علم الكلام، واعتبرناها مسائل العقائد التي لا يجوز فيها جدل ولا خلاف، وأنها قطعيات محسومة، من شك في واحدة منها كفر، ومن تأولها خلاف ما رآه السلف فقد أراد الدين بإلحاد بظلم، وبشره بعذاب أليم..

هذه المعاني والتساؤلات تتزايد باطراد كلما وقفنا على عميق ما رواه العارفون بالله من دروس الوصال، ومن المؤسف أن السادة السلفية يعتبرونها تمييعاً للدين وتشبيهاً للخالق بخلقه وتفريطاً بالتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ويرون واجبهم في إنكارها وتكفير قائليها فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.

وحين اختار الشيخ الأكبر ابن عربي أن يتوسع في هذه المعاني في العلاقة بين العبد وبين الرب على أساس من الود والحب والهوى والغمر والعشق والوجد والكلف والوله والهيام والغرام، ويقترب من الله ويشم عطره ولونه ونوره، شن هؤلاء أقسى الهجوم عليه مشبهاً وحلولياً واتحادياً وأطلقوا عليه سلسلة شتائم مقذعة توجوها بلقب الشيخ الأكفر!!

المسألة تتجاوز بشكل كبير درس التوحيد، وجدل السلف والخلف، وظاهر اللفظ ومؤوله، وتطرح بوضوح سؤال الوفاق الإسلامي بين المسلم وأخيه المسلم، صوفيا وسلفيا، وسنياً وشيعياً، وتفتح بشكل واضح سؤال اللقاء بين المسلم وأبناء الأديان الأخرى، وتدعونا لمراجعة الفكرة السائدة أن العقائد مسائل حسم صارم، وأن الخلل فيها يوجب الخروج من الملة والخلود في النار.

 

متى سنتوقف عن اعتبار الخلاف في العقائد فيصلاً بين الإيمان والكفر، والتوحيد والإلحاد، والأخيار والأشرار، والإنسانيين والشيطانيين، والوطنيين والخونة؟؟

متى ندرك أن الخلاف في العقائد ليس إلا الخلاف في الرأي الذي بات اليوم أكثر مسائل الحريات سطوعاً ووضوحاً في العالم، وهي حقيقة أشار إليها القرآن الكريم في مجموعة الآيات اللاإكراهية وهي تتجاوز العشرين آية، "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"؟

 

 

علِّق