عدد القراءات: 2465

روح الثورات... هل كان الربيع العربي مستعداً للانتصار.؟

 

بعد أشهر على اندلاع الثورة السورية، وقف أحد الأطباء المثقفين والناشطين في اجتماع لمنظمة إغاثية وقال متحمّساً: ( النظام سينهار قريباً، وحتى نكون مستعدين علينا وضع خطة التسعين يوماً لما بعد سقوط النظام)، ولكن مضت التسعون يوماً، بل ومضى ألفا يومٍ وسقطت أمور كثيرة إلا النظام لم يسقط!.

جهود كبيرة ضاعت ومصائب جسيمة وقعت ليس بسبب سوء القصد إنما بسبب قلة الخبرة وضعف الثقافة والوعي السياسيين إزاء ما يجري حولنا، فهل نملك الجرأة على الاعتراف بالخطأ وبذل الجهد لتصحيحه؟!.

الثورة - بصورة عامة - ظاهرة معقدة، وكي نتعامل معها بصورة صحيحة لا بد من فهم عميق لأسبابها وظواهرها ونتائجها، بعيداً عن تبسيط القضية في ثنائية:  أنت مع الثورة أو ضدها ؟! أو حصرها في ثنائية: هل الثورة حرام أم حلال؟!.

 

نعم لكل ثورة حصلت وستحصل في التاريخ الإنساني خصوصية، إلا أن هناك خطوطاً أساسية تشترك فيها جميع الثورات، ويشكل تجاهلها أو إنكارها خطراً كبيراً على المجتمع الإنساني.

يقدم لنا غوستاف لوبون 1841-1931 Gustave Le Bon في الجزء الأول من كتابه: روح الثورات والثورة الفرنسية 1912 La Révolution française et la psychologie des révolutions تفسيراً لظاهرة الثورة قائماً على الدراسة والتحليل، لا سيما وأن كتابه هذا قد جاء بعد أن كتب غوستاف لوبون كتبه الثلاثة:

- سر تطور الأمم 1894 Lois psychologiques de l'évolution des peoples.

- روح الجماعات 1895  Psychologie des foules

- الآراء والمعتقدات 1911 Les Opinions et les croyances.

 

يرى لوبون أن الثورات الدينية والسياسية:

- تنشأ عن معتقدات تأصّلت في النفوس، ولكنها قد تنشأ عن أسباب أخرى تجمعها كلمة الاستياء، فمتى عمّ الاستياء تألف حزب قادر على مكافحة الحكومة.

- تحدث بغتة، وتنتشر بسهولة، بسبب سرعة العدوى النفسية الناشئة عن طريق النشر والإذاعة.

- تستمد قوتها من الشعب عندما يهيج، وقد لا تتم إلا إذا دعمها فريق كبير من الجيش، وقد يمكن تغيير الحكومة بحركة عسكرية ولكن مثل هذه الثورات لا تكون ذات نتائج مهمة إلا إذا صدرت عن استياء عام وآمال كبيرة.

- يقودها الزعماء، وتسير الجماعات التي هيَّجها الزعماء معتزّة بعددها، ومثل تأثيرها كمثل تأثير القنبلة التي تخترق الدرع مستمدة قوتها من شيء آخر.

- ينقسم الناس فيها إلى قسمين: فالقسم الأول يشتمل على من يحتاجون إلى السكينة والنظام ليقوموا بمهنهم، ويغفل المؤرخون أمر هذا الفريق الذي هو أكثرية الأمة، وهذا الفريق وإن كان يستفيد أحياناً من الثورات، إلا أنه لا يفكر في القيام بها، ولا يعلم رجال الثورة من أمره إلَّا قليلاً. وأما القسم الآخر، فهم أناس يتألف من مجموعهم جيوشٌ متمردة حوَّلها البؤس وإدمان المسكرات إلى لصوص وصعاليك. فالخوف من العقاب يردع الكثير من هؤلاء عن اقتراف الجرائم في الأوقات العادية، ولكنهم لا يتأخرون عن ارتكابها عندما تستطيع غرائزُهم المنحطة أن تسير حرة.

- تتحول فيها الشخصية، وذلك أن شخصية الإنسان الخاصة تبقى متوازنة ما دامت البيئة ثابتة لا تتقلب، فمتى تقلبت هذه البيئة كثيراً - وذلك كما يقع أيام الفتن - اختل هذا التوازن. ومن ذلك أن كثيراً من رجال الصلاح والقضاء - الذين كانوا موصوفين بالحلم- انقلبوا أيام الهول إلى أناس متعصبين سفاكين للدماء.

- ينتشر فيها الحقد والخوف والحسد والحماسة والتدين، أما الحقد فقد قال عنه أحدهم :"لا داعي إلى الشجاعة في الحرب أكثر مما إلى الحقد، وإذا بحثنا عن أحسن الحركات العسكرية وأحزمها رأيناها قد صدرت عن البغض والنفور أكثر مما عن العدد ". نعم، لاكت الأفواه كلمة الإخاء أيام الثورة الفرنسية، ولا يزال الناس يرددونها، ولكن شدة الأحقاد المستترة تحت هذه الكلمات والأخطار المحدقة بالمجتمع الحاضرليست بالشيء الخفي. وأما الخوف فقد كان الظهور بمظهر العاقل المعتدل أخوف ما يخافه الناس. وأما الزهو فبما أنه جاز - في أيام الثورات -  لكل امرئ  أن يصعد إلى أعلى المراتب فإن خلق الحرص يهيج عند الناس فيظن أقلهم مكانة أنه أهل لها فيبلغ الزهو فيه غايته. وأما الحماسة فقد كانت حماسة مؤسسي الثورة الفرنسية تعدل حماسة ناشري دين محمد. ويسهُل علينا إدراك السر في أن وقوف زعماء الثورة الفرنسية  بشدة في وجه العوائق اليومية المانعة من تحقيق أحلامهم، فهم لما أرادوا نبذ الماضي ونسيان التقاليد وتجديد البشر، وكان الماضي يظهر من غير انقطاع، والبشر يأبي أن يتغير، أخذوا يُكرِهون الناس على الانقياد لأوامرهم بضغط أعادوا به - في النهاية - النظام السابق المقضيَّ عليه، والذي لم يلبث أن أسِف الناس عليه. وأما التدين فإن الفتن الشعبية الكبيرة تنال قوتها منه، وإذا كان الناس لا يبذُلون من حياتهم في سبيل المعقولات إلَّا شيئاً قليلاً فإنهم يبذُلونها كلها طوعاً في سبيل المعتقد الدينيٍّ . وكان تديُّن زعماء الثورة الفرنسية يظهر في أدق أعمالهم، فقد قال روبسپير في إحدى خطبه: "إن لله تعالى أمر بالحكم الجمهوري" ، وكان يعتقد أنه محفوف بعون الله.

- يعظم فيها الإفراط  فأقل تحريض يدفع الجماعات وقتئذ إلى القيام بأقسى الأعمال، ويزيد في الثورات أيضاً ما تتصف به الجماعات في الأحوال العادية من سرعة التصديق فتعتقد صحة ما لا يمكن تصديقه من الأقاصيص، وتتلاشى الأخلاق الشخصية في الجماعات لما لها من التأثير في أفرادها، فيصبح فيها البخيل متلافاً والملحد معتقداً والصالح مجرماً والنذل بطلاً.

- عندما تنتصر يسود اضطهاد أنصار النظام الساقط وإبادتهم. لاسيما إن كان الحزب يدافع عن معتقد وليس فقط عن منافع. فلا سلام للمغلوب في المنازعات السياسية والدينية، هذه سنةٌ لم تتبدل.

- قد تنهزم إذا عرفت الحكومة كيف تدافع عن نفسها. كما جرى في روسيا بعدما غُلبت في الشرق الأقصى وشعر الناس بشدة النظام الاستبدادي أخذت الدعوة الثورية تشيع بين طبقة الفلاحين فعزمت الحكومة على استمالتهم ثم استطاعت أن تقاتل -  من غير رحمة - العصاة المتمردين.


 

قدم لنا غوستاف لوبون تحليله هذا ليس فقط بناء على ما شاهده من أحداث الثورة الفرنسية، بل من خلال قراءته ومطالعته لثورات كثيرة حصلت في التاريخ الإنساني، لذلك فإن ثمة جانباً كبيراً في هذا التحليل يمكن سحبه على مختلف الثورات التي حصلت في الماضي أو ستحصل مستقبلاً، ولكن بالمقابل هناك الكثير من الأفكار التي يتضح أنها صيغت ضمن ظروف خاصة ولا يمكن تعميمها، بالإضافة إلى أن تطور المجتمع الإنساني خلق وقائع مختلفة لا يمكن تحليلها أو تفسيرها إلا بقراءة جديدة ومعاصرة لها.

 

لم يأتِ غوستاف لوبون في كتابة هذا على الثورات السلمية، التي ترفع اللاعنف شعاراً لها، ناهيك عن بروز ما بات يعرف اليوم بالحراك السلمي كأحد أشكال تغيير الواقع القمعي، والذي غالباً ما يقوده فئة من الشباب المنظّمين المثقفين، وليس مجموعة من اللصوص المتعطشين للمناصب والمال.

ويبقى تراكم الخبرة البشرية والاستفادة من تجارب الذين سبقونا العصب الرئيس لحياة صافية من الشوائب قدر الإمكان، ولذا لا نبالغ إن قلنا بأن " فقه الثورات" بكل ما يتعلق به أضحى اليوم من أهم الموضوعات التي ينبغي علينا دراستها بعمق في مختلف التخصصات الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية.

 

علِّق