عدد القراءات: 1336

صناعة الرويبضة

 

* محمد محمد فاروق المصري

 

محمد محمد فاروق المصري.jpg

منذ فترة قريبة شاركت على صفحتي في الفيس بوك غلافاً لأحد الكتب التي قرأتها ووجدتها مفيدة، فأرسل لي صديق رسالة خاصة يسألني: (هل المؤلف ثقة؟ أنا لم أسمع باسمه من قبل!!!) قلت له: ( ياحبيبي، ثمن الكتاب أقل من صحن شاورما، لا يضرك إن اشتريته فليس فيه شحوم ثلاثية، وبإمكانك بما آتاك الله من عقل أن تأخذ منه ما يفيدك - وحتماً ستجد فيه شيئاً مفيداً - وتترك ما سواه).

 

 

من العادات السيئة المنتشرة بكثرة في مجتمعنا العربي والإسلامي هي تجميد التفكير والاستعاضة عن ذلك بالتسليم المطلق لكلام من نثق بهم، والرفض المطلق لكلام من لا نعرفهم فضلاً عمن لا نثق بهم،  بل وفي كثير من الأحيان يكفينا حتى نقتنع بفكرة أو نصدق معلومة أن يقول لنا الراوي: (لقد قالها الشيخ فلان في محاضرته، أو ذكرها المفكر فلان في كتابه)، دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث والتأكد من منطقية الفكرة أو صحة المعلومة، وبالتالي فإن هذه الطريقة في التعامل مع الأفكار ترسخ كل ما هو قديم حتى لو كان خطأ، وتدفن كل ما هو جديد حتى لو كان صواباً.

أن نجد عبارة ما وضع بجانبها صورة الداعية أو الشيخ فلان، فهذا لا يعني أبداً أنه قد قالها فعلاً، حتى وإن ثبت أنه قالها فهذا لا يعني مطلقاً أنها صحيحة، فذلك الداعية أو المفكركائناً من يكون - بشر والبشر ليسو معصومين عن الخطأ.

بالمقابل فإن كلمة حق ربما تجري على لسان شاب عادي أو كاتب مغمور لا يعرفه أحد، بل إن الأفكار الجديدة لن تكون حتماً في الكتب والمنشورات القديمة، لذلك لا ينبغي علينا – بحجة حماية عقولنا -  أن نهمل الفكرة أو الكتاب لمجرد أننا لا نعرف كاتبها أو مؤلفها، بل علينا أن نقرأ كما أمرنا ربنا بقوله: ﴿إقرأ﴾ ثم نفكر فإن وجدنا فيها خيراً نشرناه، وإن وجدنا فيها شراً تركناه.

 

من المهم أن ندرك بأنه لا يوجد علاقة سببية بين الحقيقة والشهرة، بمعنى أن القاعدة التي تقول : (المفكر الفلاني لو لم يكن محقاً لما كان مشهوراً)، ليست دائماً صحيحة، ففي كثير من الأحيان تبدو الصورة على النحو التالي: (إن الشهرة هي التي جعلت كل ما يصدر عن المفكر الفلاني صواباً لا يحتمل الخطأ).

لذلك يبقى الاحتكام إلى العقل أجدى من الاحتكام إلى الشهرة، فمن حقي أن أعرض الكلام على عقلي أولاً قبل أن أقبل به، حتى وإن كان هناك احتمال أن أخطئ في التقييم فهذا لا يضر، فلأن أخطأ لأنني استعملت عقلي خير من أن أصيب لأني اتبعت فلاناً لشهرته.

لا نبالغ إن قلنا بأن ارتكاب الإنسان للأخطاء وهو يقييم الأفكار شيء مطلوب، لأن الإنسان يبدع حين يتعلم من الخطأ والتجربة، أما الإنسان الذي يُلقّن المعلومات، فلا يقرأ إلا لفلان ولا يقتنع إلا بما قاله فلان ، فلن يبدع شيئاً، لأنه حوّل عقله من أداة اكتشاف وبحث إلى أداة حفظ وصندوق معلومات.

تكمن أولى خطوات النهضة في مراجعة الأفكار والقناعات التي نتمسك بها، وألف باء المراجعة ينطلق من الاعتراف بإمكانية وقوع من سبقنا في الخطأ مع احترامنا وتقديرنا لهم، وإذا كنا في الماضي بحاجة للمراجعة فنحن اليوم بأمس الحاجة لها، لا سيما وقد ظهر لنا أن الكثيرين ممن يُسمون دعاة أو مفكرين أو كتاباً إنما هم صناعة الأنظمة القمعية والشمولية سوقتها للشعوب بالسكوت عنها تارة وبحقنها بهرمون الإعلام تارة أخرى، أوبالقوة والإكراه إن لزم الأمر.

 

ربما نشمئز من ظاهرة الرويبضة، ونعزو إليها الكثير من مشكلاتنا، مع أننا في نفس الوقت نكون شركاء في صناعتها خاصة عندما نصفق لها وندافع عنها دون بصيرة، أونصم آذاننا عن سماع الصوت الآخر بل ونقف في وجهه.

علِّق