نشرت في .October 18, 2015

            
 * مضر حمكو


حينما أستعيد تلك الشعارات التي تعالت بها أصوات السوريين في مطلع الثورة حول الحرية والكرامة والعدالة ووحدة الشعب السوري، وهذه الشعارات –المفاهيم والمبادئ من أصل منظومي واحد، أو تندرج في إطار نسقي واحد،أجد أن هذه الشعارات لم تكن في دلالاتها المقروءة على نحو واضح، سوى تنويعات لتشوّف واحد وشوق متجه نحو "الحقيقة الغائبة" منذ أمد بعيد، ألا وهي الدولة التي غابت عن مسرح التاريخ،وحين كتب لها أن تظهر في أواسط القرن الماضي،بعيد جلاء الفرنسيين،عادت لتغيّب على يد "الوحدويين" ثم الانقلابين وصولا" إلى مسخها وتقليصها لتتطابق مع حدود السلطة على يد "التصحيحيين"
في شعار (واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد) عبّر المتظاهرون عن وعي ملموس بتقسيم المجتمع إلى طوائف وأديان ومذاهب واثنيات، وهو إلى ذلك محكوم بالضرورة بعلاقات عمودية تشرخ المجتمع عمودياً، وتجعل العلاقات الاجتماعية علاقات أقوامية وعشائرية ومذهبية وطائفية، وبكلمة؛ فإننا إزاء مجتمع مذرّر تحكمه علاقات ما قبل وطنية،أعاد النظام إنتاجها لتكون علاقات ما بين مكونات طائفية ودينية ومذهبية وعرقية، تتخابط في مناخ ركودي، تتعادل في العدم أو في كونها لا شيء،أو تتساوى في العدالة الصفرية أي نظام اللاعدالة.


هنا قرار ضمني لكنه واضح،أن لا دولة بلا مجتمع ولا مجتمع بلا دولة،أو بعبارة أخرى لا دولة حديثة بلا مجتمع مدني،ولا مجتمع مدني بلا دولة وطنية،وصفة الوطنية هذه ليست حكماً أخلاقياً بل هي حكم واقع، يحيل على إنتاج هذا المجتمع للدولة  بوصفها شكلا سياسيا" لوجوده الاجتماعي المباشر، هذا يعني حضور المجتمع بكل مكوناته وأطيافه، لابل بكل أفراده في الدولة التي لامعنى لها سوى أن تكون \إذا أرادت أن تكون \وطنية، أي دولة مواطنيها الحديثة وتحديد ذاتي  للشعب وتجريد عمومية أفراده، أي انها الفضاء المشترك الحقوقي والسياسي والاخلاقي للمجتمع، وحين لا تعبّرعن الجميع حتى لو كان شخصا" واحدا، فهذا يعني أنها كفت عن كونها دولة، وهذا هو بالضبط تاريخ اللادولة عندنا وهذا في تقديرنا ما استقر في الوعي الجمعي وإن على نحو ملتبس، بدأ يتوضح في تلك الشعارات التي أطلقها المتظاهرون .
تاريخيا، نحن لسنا على علاقة جيدة بالدولة، فهذه الاخيرة لم تكن مندرجة في وجودنا السياسي والأخلاقي والقانوني على أنها دولة الشعب، دولة الأمة أو الدولة الأمة، لم تكن ميدانا" للاعتزاز الأدبي والسياسي ومملكة القوانين التي دفع سقراط حياته ثمنا" لها، الدولة التي نتعادل فيها ونتساوى باعتبارنا جميعا" أبناءها البررة.
ربما راكم التاريخ في هذا الوعي الجمعي أن الدولة ليست سوى عصبية أو دولة العصبية القبلية أو الحزبية مؤخرا"، وحتى الشخصية المختصرة في شخص القائد المعجزة والعبقري، الذي تكثفت فيه جميع قوى الأمة وبسالتها وحكمتها .
فصار هو الدولة وأصبحت الدولة دولته، أي تاريخ هذا وأي وجود لدولة.!.


حين نعود الى تاريخنا البعيد لا نجد سوى الامويين  أو العباسيين أو دولة المماليك أو دولة الفاطميين، وحين نعود الى تاريخنا الحديث فإننا لا نجد سوى دولة الحزب الواحد والزعيم الأوحد .
في العربية، الصفة تتبع الموصوف لكن في تاريخ العرب السياسي وواقعهم فأن الصفة أكلت الموصوف الذي هو الدولة .
لم يكن ما يردده المتظاهرون من شعارات الحرية مقطوعا" عن تاريخ الحرية المسلوب، أو تاريخ سلب الحرية .فالدولة والحرية صنوان يتقدمان معا" ويتراجعان معا".
ولما كانت تجربة الحرية تحمل في طياتها تجربة السلطة،وتجربة الدولة التي تتجمع فيها ينابيع جميع السلطات أيضا"، كما يقول جاد الكريم الجباعي، يغدو مفهوما" كيف أننا مارسنا الحرية عبر تاريخنا الطويل بصورة وهمية وذاتية زائفة، خارج الدولة بوصفها أحد أهم أشكال الحرية الموضوعية بل أرقاها .
لقد مارسناها على شكل بداوة وزهد وتصوف . يقول عبدالله العروي:
(إن الحرية لم تكن توجد إلا خارج الدولة وبالتضاد معها، ولم تكن الحرية تتجلى عبر تاريخنا الطويل إلا في البداوة والتقوى والتصوف).


وبهذا المعنى يغدو مفهوما" كيف توجهت قطاعات كبيرة من المجتمع، أو غالبيته الساحقة إلى اللوذ بالبنى التقليدية هربا" من الدولة وسطوتها، إنه شكل من أشكال البحث عن الحرية خارج إطار الدولة التي قرّت في الوعي والوجدان على أنها آلة عملاقة للسلطة، تطحن بين رحاها كل نزوع أو توق نحو الحرية.
يقول عابد الجابري في كتاب نقد العقل السياسي: "إإن البنى ما قبل الدولتية كانت وما تزال ملاذا" آمنا" من سطوة السلطة التي تتلخص في العشيرة والغنيمة والعقيدة".
أذكر أن من بين ما كان يردده المتظاهرون السوريون شعار يقول:
(لا سنية ولا علوية بدنا دولة مدنية) . هنا تكمن المسألة، مسألة الدولة ومسألة الحرية بالتلازم الضروري، على اعتبار أن الدولة هي فضاء الحرية الموضوعية بما هي مملكة القوانين وميدان تجلي العموميات.
يمكن القول أن وعي البشر قد راكم عبر التاريخ جرحا" حول غياب الدولة، وإذا" ضياع الحرية التي يمكن للدولة أن تحفظها أو تنقلها من ميدان الشوق والصبوات إلى ميدان التعين والتحقق، تنقل ما هو ذاتي غير مموضع الى الموضوعي المتحقق في الدولة، فلو كانت لدينا دولة ومعادلها الاجتماعي الذي هو المجتمع المدني، لما كنّا بحاجة إلى الثورة، لو كان في وعيينا حدان مفهوميان هما الدولة والمجتمع المدني، لما نحن الأن بإزاء سقوط محتمل للدولة والمجتمع معا"، نخشى أن يتحول الاحتمال إلى واقع .
الغياب المفهومي والتاريخي للدولة والمجتمع هما التأسيس الفعلي والواقعي للسقوط، سقوط الدولة والمجتمع .


نعم إن الثورة فضيحة، فضيحة الواقع والتاريخ، التاريخ هنا هو تاريخ اللادولة واللاحرية بالتلازم الضروري.
إنها الثورة تحاول أن تدواي الجرح وتقيم الحدّ على الفوات السياسي المعبر عنه بفقدان الدولة وانكسار المجتمع، وتلك الشعارات البسيطة التي تفضح استلابا" مركبا"، استلاب الوجود الاجتماعي المباشر واستلاب شكله السياسي المفترض سواء بسواء،ليست سوى اقتراح حار لاستعادة وحدة الشكل والمضمون.
لامعنى للثورة خارج الرهان على الدولة لأنها أي الثورة ليست شيئا" آخر سوى كونها معادلا" لفشل العقل السياسي في الاصلاح المتدرج،هذا العقل الفاشل الذي أسقط الدولة والمجتمع معا" أوكاد، وهي في كلّ أطوارها مسعى" بهذا الاتجاه، يتمظهر احيانا" بالعنف الذي لم يكن خيارها، ويتجلى في أجمل أطوارها بالغناء.
هي قاطرة التاريخ التي تتقدم في الوعي،أو رغبة الروح الانساني في الانعتاق والتجلي في التاريخ.
الثورة تشوّف الى الحرية وشوق الى الانعتاق، تداوي جرح الفقد بالغناء وإن دفعت قسراً لكيّه بالبارود، لكنّها هي ذات الثورة، بماهي رهان على الدولة.

                                                                     
*مضر حكمو:  شاعر وكاتب سوري
 

علِّق