نشرت في .October 20, 2015

* د. نبيل الطرابيشي

العطالة هي مفهوم ميكانيكي تحدث عنه غاليليو و صاغه نيوتن بقانونه الاول و الذي يبين ان الكتل لها خاصية الحفاظ على حركتها و مقاومة التغيير فعند غياب القوة فان الجسم الثابت يبقى ثابتا و الجسم المتحرك بحركة مستقيمة منتظمة يتابع حركته، و بالتالي لاحداث تغيير في حركة الجسم يلزم تطبيق قوة. و رغم ان اصل مبدأ العطالة فيزيائي الا ان هذا المفهوم يمكن تعميمه على نواح اخرى و منها الافراد و المجتمعات حيث نلمس دائما جنوحا للحفاظ على الاحوال كما هي و مقاومة التغيير و بالطبع فان مقدار تلك العطالة يتغير من مجتمع لآخر حيث تلعب الثقافة السائدة دورا كبيرا في تقليص او تضخيم تلك العطالة.


ففي المجتمعات الحية يتم تقليص هذه العطالة للحد الادنى بتشجيع البحث و الابداع و الفكر الحر و تلاقح الافكار و تفاعلها كما ان الانظمة التعليمية فيها، تؤكد على ضرورة الانفتاح الفكري المصحوب بالمحاكمة العقلية المتجردة دون تحيز او احكام مسبقة، لذلك نرى ان تلك المجتمعات تتسم بمرونة كبيرة و حركة دائبة و نشاط مستمر، فتثمر بكثير من الافكار الابداعية و التجديدية، و التي يؤدي استثمارها الى مزيد من الحركية التي تدفع لمزيد من الابداع، و الذي بدوره يولد افكارا جديدة و هكذا في دورة مطردة صاعدة للمجتمع، تدفعه قدما في طريق الحضارة و العمران كما انها تهيئ له اسباب القوة و المنعة.


أما في حالة المجتمعات التي تعيش على هامش الحياة و الحضارة، فان ثقافتها تخلق جوا ساما لأي ابداع او تجديد، و تحاول خنق اي توجه من شانه ان يمس الوضع القائم. و الامر يبدأ من التعليم فمثلا التعليم الديني في بلادنا يشدد على الحفظ و يحتفي به ربما لدرجة التقديس و يحارب و يقمع اي محاولة لاعمال العقل و التجديد، فقد تقرر ان الدين لايؤخذ بالعقل كما جاء في قول منسوب للإمام علي يزين به كتاب فقه واسع الانتشار، ناسين انه حتى بالنسبة للمواضيع التي تقتضي الايمان فانه فلا يمكن تمييزها الا بالعقل، و النتيجة هي اننا مع وجود الكثير من الشيوخ عندنا الذين يوصفون بالعلامة و الفهامة الخ ...لم نستطع حل مشكلات صغيرة ناهيك عن المشكلات الكبيرة، و ما موضوع رمضان و الاعياد بخافية على احد، رغم مرور سنين طويلة لم تستطع خلالها المؤسسات الدينية حلها رغم بساطتها ! فهناك شلل شبه كامل، و ذلك ليس بسبب انعدام الحلول، بل بسبب الاعاقة الفكرية و التهرب من المسؤولية باصطناع الورع الكاذب، الذي يختبئ خلف حديث يحذرمن الجرأة في الفتوى، بينما يتم تناسي ميدأ الاجتهاد و الحض عليه و ثواب الاجتهاج الصادق، حتى عندما يكون مخطئا و ثواب قضاء حوائج الناس و تسهيل حياتهم.


و قد يظن المرء ان هذا العطل مقصور على البلاد العربية و الاسلامية، غير انك اذا تعاملت مع المؤسسات الاسلامية العاملة في الغرب ستكتشف و بسرعة ان المرض تم نقله كاملا بكل امانة بل و زيادة، مما يشكل خطرا جسيما على مستقبل الاجيال القادمة و هويتها في ثقافة لا تحتمل مثل هذا العجز.
أما من ناحية التعليم "المدني" في المدارس و الجامعات، فانه ليس افضل حالا بل هو اسوأ بكثير في بعض جوانبه، فهو مبني بشكل اساسي على حشو المعلومات عن طريق الحفظ بدلا من تنمية روح البحث و التقصي و الاستنباط، لذلك لا تكاد ترى اية مساهمة حقيقية في العلوم لهذه المؤسسات، و اذا اضفنا الفساد و المحسوبيات و غياب التخطيط و قلة الدعم اللازم و هروب الكفاءات او تهجيرها، تكون النتيجة نظاما تعليميا فاسدا، هو انتاج قوافل خريجين و حملة شهادات الكثيرمنهم غير مؤهلين و لا يساهمون في نهضة و تقدم المجتمع ولا يزيدون المجتمع الا خبالا.


اننا نعيش في هذه الايام ازمات يمكن وصفها بالمصيرية، و لكن الخروج منها و حلها لن يكون ممكنا بالافكار التي نحملها الآن لأن تلك الأفكار هي التي اوصلتنا لما نحن فيه، و المشكلة الحقيقية اننا مبرمجون لمحاربة اي فكر جديد، و لم نعتد على المرونة الذهنية و المحاكمة العقلية الهادئة لتقييم اي تجديد تقييما موضوعيا و الاستفادة منه مما يحرمنا من اي فرصة للخروج من هذه المآزق التاريخية التي نعاني منها، و ما لم نغير البرنامج الذي تم زرعه و رعايته ليؤدي تماما هذا الدور الذي نراه - سواء ان ذلك كان مقصودا ام غير مقصود - سنظل نعاني في دوامة التخبط و الفشل، لذلك فان خلاصنا الجماعي يبدأ من الفرد.

هذا الفرد الذي يعيش تناقضا بين ما يرى في الواقع و بين ذلك البرنامج، و عندها يعمد للتبرير و لتشويه الحقائق لكي تتوافق مع برنامجه المشوه، مما يخلق انتهازية  بشعة و لا اخلاقية مقيتة. هذه اللااخلاقية تظل مصدر ازعاج مستمر مثل جرح ملتهب و متقيح، نرى آثاره بالقيح الذي ينزل منه بين الحين و الآخر. على ان هذا المرض ليس عصيا على العلاج، و اول خطوات العلاج هي الجلوس و التفكر العميق و معاينة ما نحمله من افكار، وهي مهمة ليست بالسهلة و لكنها ضرورية للخروج من سجن تلك الافكار الى عالم رحب جميل وقد يحتاج الامر مساعدة من مصدر موثوق و لكن الامر يستحق عناء البحث لانه حقا الطريق الى الله.

علِّق