نشرت في .November 15, 2015

* سمير سعيفان

 

جلس طالب وراضي ، وهما زميلان من أيام الدراسة ومديران كبيران في دائرتين حكوميتين مختلفتين


بادر طالب الحديث متذمراً: يا رجل، كل يوم أحسب كم من معاملات رجال الأعمال تمرّ  بين يدي،  وكم من الأرباح يجنيها هؤلاء من فرص أمنحها لهم، ثم أقارنه بما أقبضه من راتب ضئيل أكاد أجن.
راضي: ولكن هذه هي طبيعة التقسيم الاجتماعي للعمل، وأنت تعرفها. أنا نفسي يمرّ تحت يدي معاملات شبيهة، وتوقيعي هو ما يمنح الفرص بالربح، ولكني أشعر بالرضى لدوري هذا.
طالب: من أين يأتي الرضى و أنا أنظر إلى هؤلاء الذي يتابعون معاملاتهم ويحققون مبالغ طائلة بسبب توقيعي، فهم مرفهون يحصلون على ما يشتهون وزوجاتهم تطلب رضاهم، بينما زوجتي تتهمني بالعجز كل يوم عن تأمين أقساط أولادي الذين وضعتهم في مدارس خاصة.
راضي: لماذا تفترض أن زوجاتهم تطلب رضاهم رغم غناهم، فلا أكثر من المشاحنات في بيوت الأغنياء، ثم لماذا المدارس الخاصة لأولادك، بينما لديك مدارس الدولة المجانية، وفي المدرسة الخاصة يختلط أبناؤك بأبناء شرائح غنية أفسدها الدلال.
طالب: هذه هي المشكلة، فعلاً أبنائي يأتوني من مدارسهم الخاصة كل يوم بطلبات أعجز عنها، ولا أعرف كيف أتدبر أمري، وقد أصبح أولادي ينظرون لي بعدم الاحترام فأنا بنظرهم أب "عاجز"
راضي: هذه نتيجة طبيعية لكونك تنظر لأعلى من طبقتك، وتسعى للتشبه بهم.
طالب: وبماذا يتفوق على أولئك الأغنياء كي تكون حياتهم أفضل وتعليم أولادهم أفضل وعيشهم أفضل، أنا أذكى وأكفئ، وعملي أهم ويتطلب كفاءة ومهارة وخبرة أكثر من أي رجل أعمال، وأعمل ساعات أطول، ورغم ذلك يحصل رجل الأعمال على نصيب أكبر مما أحصل عليه بعشرات ومئات وآلاف المرات.
راضي: المسألة ليست كفاءة وعدد ساعات عمل، الأهم هنا هو رأس المال الذي ينتج كل هذا الربح، ثم أحمِ نفسك من هذا العذاب بالمعرفة والثقافة والسمعة الحسنة والقناعة، فالقناعة كنز لا يفنى.
طالب: لا ليست "القناعة كنزاً لا يفنى"، بل هي "فضيلة الحمير"، و"ليست السمعة الحسنة أكثر من رسن في رقاب حمير تدعى بني آدم "،  وليس رأس المال هو ما يصنع أرباحهم بل الفساد، لولا الفساد لما حققوا ثروات، كل منهم لديه شريك في أجهزة الدولة. وأنا أعرف الكثيرين منهم كيف كانوا و كيف كونوا ثرواتهم، وقد أصبحت كالبعير الأجرب، يلقبونني بالأجدب، وكلما وضعوني في لجنة تأفف الآخرون لأنني أقطع أرزاقهم، و كثيراً ما حاولوا الإيقاع بي.
راضي: أنت تبالغ، صحيح أن البعض حققوا ثرواتهم عبر الكثير من الفساد، ولكن الكثيرين حققوها عبر اجتهادهم وكفاءاتهم وتوفيقاتهم.
طالب: لا أبالغ وانت تعرف أن الفساد في صعوده ينتشر بوقاحة. والفاسدون يجاهرون بفسادهم كما لم يفعلوا من قبل، وقد ضاق خناق الحياة علي إلى درجة لا تحتمل. وما أخشاه أنني حين سأتقاعد سأذهب إلى بعض هؤلاء الفاسدين سائلاً عن فرصة عمل، والأصعب من ذلك هو أنني سأورث أولادي الفقر ويورثون أولادهم الغنى، وسيضطر أولادي للعمل لدى أولادهم كأجراء.
راضي: هي فرصة تأتي للبعض ولا تأتي لآخر، ولا يمكن أن تأتي فرص للجميع لأن الفرص محدودة،
طالب: لا أبداً، فرصتي لم تأت بعد، والحقيقة إن فرصتي هي بين يدي، وأنا يمكنني أن أقبض عليها أو أتركها تفرّ من بين أصابعي، كما فعلت كثيراً من قبل. هذا السؤال أصبح يقفز إلى ذهني كل يوم.
راضي: ما هي هذه الفرصة أخبرني؟
طالب: إنها في رأس قلمي، إنها توقيعي الذهبي، فأكتب "موافق" أو "غير موافق"، وهي في رأس لساني، كلمة واحدة ومعلومة واحدة تجعل هذا يربح وذاك يخسر، أنبش وأنكش أو أصمت وأطنش. وكل واحدة من هذه تخلق منفعة أو ضرراً كبيرين لمتابعي المعاملات، ويكفي أن أفعل ذلك حتى يتراكض أصحاب المصالح لاسترضائي بالطرق المعروفة. إن قلمي يستطيع قسمة أرزاق الناس، هل تتصور ذلك، فكيف أقسم الأرزاق ولا أنتفع ببعض منها؟!.
راضي: أنا أفعل ما تفعله أنت، ولكن لا أسميه قسمة أرزاق، بل أسميه قياماً بالواجب وفقاً للأنظمة والقوانين، ثم أنت هكذا ستتحول إلى فاسد، فهل تستطيع تحمل ذلك؟.
طالب: نعم مشكلتي في أن أتحول إلى فاسد، وبقي هذا الصراع يدور في رأسي يعذبني،
راضي: وهل تستطيع أن تتحمل فقدانك لأخلاقك  ونظرة الناس لك كفاسد؟. 
طالب: في السابق لم أكن أستطيع، ولكن ضغوط الحياة  جعلتني مستعد لتقبل أشياء لم أكن أقبلها في السابق، و استمرار الفساد من حولي ومحاسبة الفاسدين الصغار وحماية الكبار سهّل تحولي وجعلني أتطبع، فأصبحت أردد كما الآخرين "كم يساوي كيلوا الأخلاق هذه الأيام"، ودعني أصارحك أنني بت أشعر أن وزن الأموال يفوق وزن الأخلاق بكثير في ميزان مجتمع هذه الأيام وحكومتها.
راضي: ولكنك تتحول إلى فاسد، وتفقد احترامك، وسيجعلك الفساد منبوذاً من الناس..
طالب: لا تتوهم كثيراً، أنا أرى الناس تتراكض من حول الفاسدين يطلبون ودهم، فالمال يصنع سمعة حسنة بينما الفقر أسود، ويصنع سمعة سيئة، أعطني مالاً ولن أبالي بشيء بعد الآن.
راضي: ولكن إن كنت لا تهتم بالناس فتذكر أن هناك قانون ومكافحة فساد،
طالب: لا تتوهم ولا تصدق وسائل الإعلام أو ما تقوله الحكومة، هل تصدق أنه يوجد مكافحة فساد حقيقية؟، لو وجدت لما رأيت كل هذا الفساد ينمو ويزدهر، ولما رأيت هذا الكم من الفاسدين الكبار، إنه تنظيم للفساد يا صديقي. ولا تخشى علي شيئاً، فأنت تعرف كفاءتي في كل ما أفعل، وأنا سأعرف متى وأين وكيف أستخدم قلمي ولساني، وأين أضع قدمي، فأنا أعرف الأسرار، وأعلم إلى أي فريق سأنضم، إذ سأنضم إلى الفريق الذي لا يذهب إلى السجن أبداً.
راضي: إن لم تخش عقاب الأرض فأخش عقاب السماء.
طالب: عندما سيكون لدي أموال كثيرة سأقوم بأفعال حسنة كثيرة، سأساعد المحتاجين، وأتبرع لبيوت الله، بل لن أعدم من يجد لي تبريراً، فقد سمعت أن البعض يفتي بجواز دفع الرشاوى لتسيير الأعمال، ولن أعدم من يفتي لي بجواز تقبل الرشوة للإنفاق على حاجاتي وحاجات الآخرين والقيام بأعمال الخير. وعندما أقوم بأفعال كثيرة تكفيراً عما فعلت، فإن الله غفور رحيم.
راضي: لم أكن أتصور أن تنحدر يوماً إلى هذا الحد، فتنضم إلى جيش الفاسدين الذي طالما حملته المسئولية المادية والأخلاقية لخراب البلاد وفقر العباد، وأن ......
لم يرغب طالب بسماع معزوفة راضي، وانقطع الحديث عند هذه النقطة، وتفرق الصديقان، وذهب كل منهم في اتجاه.
وفي اليوم الثاني توجه طالب إلى عمله  وأصبح قلمه ولسانه يعملان و يطلبان باجتهاد.

 

خاتمة الحكاية:
عندما نقل أحد البصاصين هذا الحوار الى رئيسه، علّق الرئيس بقوله:
لقد أحسنا تنظيم البلاد، فالأول موظف كفؤ نزيه راض،  يقوم بعمله على خير وجه كي تسير أمور العباد، وآخر يدخل في لعبتنا فيسهل منافعنا  من حكم هذه البلاد.

 

علِّق