نشرت في .January 22, 2016

هل من الممكن أن يعمل الإنسان بحيادية في نظام دكتاتوري ؟

و يتعقّد السؤال بشكل أكبر، حين يتعلق الأمر بنظام تغلغل داخل بنية الدولة بشكل سرطاني، لدرجة أصبح  استخراجه من جسد الدولة، يتطلب عملية جراحية ضخمة و خطيرة جداً، و ربما تؤدي الى وفاة الدولة كلياً، كتلك العملية التي يجريها  السوريون حالياً .

عملية جعلت الكثير من أبناء هذه الدولة، تفضل إبقاءها مريضة على خوض تلك التجربة !

 

لست مفكراً سياسياً، و لست عالماً بتاريخ الثورات و الحراك الإجتماعي، و ما سأورده هنا، مجرد تجارب خضتها كطبيب نفسي، عمل لفترة في مشافي النظام السوري، و بقيت على رأس عملي حتى نهاية الشهر السادس من عام 2012، أي حوالي سنة وثلاثة أشهر من عمر الثورة السورية،

لم يكن ترك العمل قراراً  إرادياً، و لكنها مشيئة الأقدار، و مشيئة عوامل شخصية عديدة، ولم أكن أتخيل يوما أن أهجر عملي ووطني  .

لكن هل كان من الممكن الاستمرار ؟

هل بعملي ذلك كنت أقف على الجانب الآخر من الثورة، بالرغم من موقفي الواضح خارج أوقات الدوام ؟

بأحد الأشكال، نعم، و سأوضح أسئلتي تلك من خلال موقفين تعرضت لهما في سياق عملي أثناء أشهر الثورة الأولى .

 

 1 

هل من الممكن أن يعمل الطبيب جلاداً؟

هذا السؤال كان مسيطراً علي، حين استدعى عملي أن أكتب تقريراً بأحد شباب دوما، عرض علي في سجن عدرا، كي أحدد، إن كان فعلاً قد فقد قواه العقلية و أصبح غير قابل للاستجواب .

جلست حينها أمام شاب منهك، يتبعثر بالكلام، لا أدري ما اسمه، و لا يحق لي السؤال على أي حال، لكنه شاب من دوما، من تلك المدينة التي أرهقتنا  قدسيتها، و جعلت العالم كله يخشع، حين يتلفظ بحروفها.

كنا في أشهر الثورة الأولى، حين لم يكن يحمل شباب دوما لا حجراً و لا عصا، بل يخرج هاتفاً لدرعا و للحرية .

إذن هو شاب بالتأكيد خرج في أحد تلك المظاهرات التي شاهدناها على التلفزيون، و شاركت ببعضها مبهوراً مأخوذا بفكرة أنه يهتف ضد الأسد في شوراع دمشق .

كيف لي أن أفحص القوى العقلية لشاب، بخروجه ضد النظام، حطم كل المعقول ؟؟

هو بكل تأكيد مصاب بلوثة جنون .

ألم نسمع دائماً و نقرأ، أن الثورة يبدؤها المجانين !!!

يقف بقربي ضابط برتبة ما، ربما يكون مجنداً، لا أدري، فأنا ابن الساحل السوري، لكنني جاهل تماماً بكل الرتب العسكرية، فأنا من (المجموعة الأخرى ) في الساحل، التي تفضّل، بل و تخاف، و تبتعد قدر المستطاع، عن كل ما يمتّ للعسكر و الجيش .

يسخر الضابط أو المجند من بعض هلوسات ذاك الشاب، و يشير لي بعينيه، بكل استهزاء و تصغير .

هل من الممكن أن أشارك في جلسة سخرية من ملاك ؟

  • اكتب...اكتب تقريرك، هل يدعي المرض، هل يريد السخرية من أجهزة الدولة ؟…ركلة واحدة ممكن أن تعيد له رشده، إن كان له رشد

و يبتسم......

هل ابتسم ؟

هل أحترم قسم أبوقراط، و أمارس عملي بكل مهنية و حيادية، و أحاول معرفة الوضع العقلي لذاك ( المجنون ) ؟

من هو ذاك المعتوه أبوقراط ؟

هل أملك أنا أصلاً من القوة العقلية ما يجعلني أمارس مهنتي ؟

ما حكم أبقراط على حالتي ؟

هل أشرب كأس السم كما فعل سقراط ؟

لكنني لست سقراط، و لا أعيش في أثينا، إنا مجرد موظف في هذه القعرة الجهنمية من العالم

  • اكتب تقريرك يا دكتور

و كتبته

عفواً أبوقراط

 2 

استغربت جداً حين أخبرتني أمها بكل وضوح، أنها مصابة بحالة نفسية رهيبة، منذ تلك الليلة التي اقتحمت بها قوات النظام منزلهم، عاثت فيه فساداً، و قتلت خالها أمام عينيها .

امرأة عشرينية، بلباسها التقليدي المميز لأهل مسرابا، روب أسود و حجاب شرعي .

امرأة مكلومة كمريم العذراء، أشعر و كأن عينينها تحولت إلى سدّ ضخم، يحتجز خلفه سيولاً من دموع .

جاء أهلها بها الى عيادة حرستا النفسية، حيث كنت أعمل يوماً واحداً في الأسبوع، هو أكثر الأيام إرهاقاً، و أشدّها قسوة و مرارة .

حكت والدتها القصة بكل مباشرة و عفوية، و كأننا في منطقة محررة !!

ما الذي أصاب شعبنا ؟

أعترف أن أول فكرة راودتني وقتها، هي الفكرة الأولى التي تراود كل سوري، يصادف شخصاً يتحدث بحرية عن النظام و ينتقده بكل جرأة، فكرة ربما تراود حتى قارئي السوري الآن:

امرأة تتحدث عن قوات الأمن، دون خوف أو رعب، و بكامل قواها العقلية

هل أجاريها ؟

هل أحاول معرفة  بعض التفاصيل ؟ أم أقتصر على أسئلتي المفترضة كطبيب نفسي ؟

خطر ببالي حينذاك أحد أساتذتي الذين أثق بهم و أحترمهم ......

لا بد أن أسأل غاندي السوري، لكنني مرة أخرى لست غاندي..!!

من أساسيات الطب النفسي، أن يحافظ الطبيب على بعض من الحيادية  مع مرضاه، و أن يبدي بعض العاطفة بما يتناسب  و خطته العلاجية، أي عاطفة لأسباب علاجية بحتة.

فما بالك حين تتسبب حالة مريض نفسي ببركان من الغضب… بركان يجعلك تتطاير حمماً و حقداً، هل تبقى حينها طبيباً نفسياً ؟

ربما

لكن ما يجلعني أحافظ على هدوئي الطبي هو طاقتي لعلاج المريضة !!

هل تتخيلوا  ؟!

أن يتحول المريض الى طبيب نفسي، و الطبيب بركاناً يستمد هدوءه من المريض .

هل لتلك الحالة اسم و تعريف في الطب النفسي ؟

هل يحق لي السؤال أصلاً

ألست أنا الطبيب النفسي، المفترض أن يجيب على ذاك السؤال ؟

بالطبع و بالطبع لا،فالطب النفسي، كما الطب عامة، كما كل العلوم، كما كل الحياة؛ ليس له مكان في بلاد مختنقة، بلاد تضرب بأرجلها و أيديها  في كل الاتجاهات، كي تخرج من ذاك القمقم

هل تتخيلون وطناً في قمقم، هواؤه الكربون و النشادر ؟

 

 3 

هذه هي أسئلتي، و هذه هي بعض من تجاربي، تجارب تخصني وحدي ـ ربما ـ

ربما يملك البعض أجوبة مختلفة، بل متناقضة

لكنه بكل الأحوال سؤال مرهق .

 

هل  ما تزال تسمى دولة، حين تمسك بخناقها، شرذمة من الدمويين ؟؟

هل كنا فعلا نعمل في دولة، أم هي بعض من أوهام، و بعضمن آليات دفاع، كنا نبرر بها وجودنا ؟؟؟

 

 

التعليقات

دوله شياطين
بارك الله فيك دكتور..إنك تصف الحالة التي وصلنا إليها نحن كلنا..لا بدلليل أن ينجلي
حسبي الله ونعم الوكيل
الكلام عبارة عن مأساة يعيشها الشعب سواء بالسجون او بالخارج ولكن المأساة من يوجد بداخل المعتقل لانهم يروا كل انواع العذاب

علِّق