عدد القراءات: 4933

سيكولوجيا الثوار السوريين

الإطلالة على حوادث وتقلبات الثورة السورية من منظور علم النفس تجربة شيّقة ومليئة بالعائدات المفيدة على الباحث، حيث يساعدنا علم النفس بشقيه الفردي والاجتماعي على استجلاء كوامن خفية في محركات الثورة ومآلاتها لا يوفرها لنا منهج بحثي آخر. يطمح هذا المقال لأن يفتح باب النظر في الثورة السورية من منظور علم النفس، فأنا هنا أتلمس الخطى وأبذل محاولة بسيطة في هذا الميدان الثرّ على أمل أن يلحقني به غيري من الباحثين أصحاب الاختصاص القادرين على معالجة الموضوع بطرائق علمية أكثر إحكاماً وتفصيلاً

كانت الثورة السورية في صرختها الأولى ثورة كرامة هدفت لاسترداد قيمة بشرية عليا صادرها الحكم القمعي طيلة عقود طويلة تركت البلاد في حالةٍ من النقمة والغليان، حتى أتت اللحظة التاريخية متمثلة بهبّة شعوب المنطقة في وجه المستبدين، لتكون الشرارة في هشيم الواقع السوري الذي كان مهيئاً لها تماماً

 


والمتظاهرون الذين تدفقوا إلى شوارع المدن والبلدات والقرى في الأشهر الأولى من الثورة كانوا مزيجاً من المثقفين الذين أدركوا مواتاة اللحظة للتغيير، ومن الناقمين على الوضع الاقتصادي المتردي الذين تركتهم إصلاحات النظام خارج حساباتها، وصولاً إلى تلك التركيبة من المغامرين والمتهورين والطامحين، بالإضافة إلى أفرادٍ ناقمين أساساً على واقعٍ ليس تجلياته القمعية السياسية إلا جانب صغير منه، فاستفاق هؤلاء فجأةً عليه ليجدوا في الانتفاضة في وجه السلطة متنفساً لحالتهم المزمنة بكل أعراضها، ودفعةً واحدة.   

 
غير أن امتداد الثورة والمظاهرات في الزمن، وتبلور الانتفاضة كواقع ما عاد بمقدور النظام السيطرة عليه، فتح الباب على مصراعيه لأشخاص كثر للانضمام للحراك لدوافع وحاجيات ليست بالضرورة مشتركة مع باقي الأفراد المنتفضين، أو مع أصحاب الصيحة الأولى في وجه القمع وبحثاً عن الكرامة والحرية.  
فهناك مثلاً أطرافٌ وجدت بالثورة فرصةً للانتقام من نظام حكم طائفي كانت تلك الأطراف قد نازلته في الميدان الطائفي منذ ثلاثين سنة ففشلت وذهب ريحها، فهي اليوم تعود للمشهد ليس بحثاً عن حرية مسلوبة كما طمحت الثورة والثوار، بل لأمرٍ خلاف ذلك وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الكثير من المنهزمين من تلك الفئة يعيشون أصلاً في مغتربات أوربية تنعم بمناخ الحرية المفقود في سوريا منذ عقود. إن ما زج بتلك الأطراف في المشهد هو غريزة الانتقام فانخرطوا بالثورة إما بشكلٍ مباشر عن طريق الحضور الفعلي على الأرض بعد تحول الثورة للسلاح وخروج مناطق عن سيطرة النظام، أو الانخراط عن بعد عن طريق إذكاء القتال ضد النظام بإمداد المنتفضين بالمال والسلاح والأيديولوجية الدينية التي تعين الأبرياء منهم على قتل مناصري النظام تحت عناوين طائفية مكتفية بذاتها ومنفصلة عن قيم مضافة من مسببات الثورة الأصلية.

كما أن امتداد الثورة في الزمن أدى أيضاً لانضمام أفرادٍ كانوا على الهامش لشهور وسنين طويلة قبل أن يقرروا الانخراط لأسباب ودوافع شتى. فقد شجع العمل العسكري مثلاً أعداداً غير قليلة للانضمام للثوار تحت إغراء حمل البندقية والتبختر بها بين بيوت الحي بما ينطوي عليه ذلك من الشعور بالقيمة الذي يندرج بدوره تحت محرضات دافع الشعور بالأمن وهو من الدوافع الأساسية في المملكة الحيوانية التي ينتمي إليها نوعنا البشري. وهكذا ما كان ليأتي على الإسكافي والكومجي والبقال والعتال فرصةً أنسب من هذه الفرصة ليصبح بطلاً قومياً يشار إليه بالبنان، ويتهامس رجال ونساء البلد بعبارات الإعجاب والإكبار له كلما مرّ يوماً في الطريق ملوحاً ببندقيته. ولعله يذهب في اليوم التالي فيخطب بنت أحد الوجهاء من اللائي ما كان ليجرؤ على النظر حذاء بيت أبيها فيجاب في طلبه دونما تردد. هناك الكثير من الثوار السوريين حققوا طموحهم بالحياة واعتلوا سنام المجد في نظر أنفسهم بمجرد أنهم حملوا البندقية، حتى لو لم يقاتلوا بها أو يطلقوا منها أية طلقةٍ باتجاه العدو.

وقد فتح تحول الثورة إلى جهاد وعمل ديني مقدس الباب أمام أشخاصٍ كثر قعدوا متفرجين لسنة أو سنتين قبل أن ينخرطوا بإخلاصٍ واندفاع فاق بكثير إخلاص واندفاع جماعة الانتقام أو أولئك الباحثين عن تحقيق الذات. وكون المجتمع السني السوري مجتمعاً مغلقاً من جهة، وكون الوعود بجنة الجنس في الموروث الديني واضحة لا لبس فيها، من جهةٍ ثانية، فقد كان الدافع الجنسي والرغبة بمضاجعة سبعين حورية محركاً جباراً زجّ بالآلاف في أتون معارك جلّ مناهم فيها أن يموتوا لكي يبلغوا الجنة المنشودة وينكحوا من الحور ما عجز مجتمعهم القائم على الكبت عن تقديمه لهم.   

وإذا انتقلنا إلى ميدان علم النفس الاجتماعي فسنجد في اضطراب أحوال المناطق "المحررة" العجب العجاب. فالثورة ابتداءً من سنتها الثانية تقريباً بدأت بالخروج رويداً رويداً عن ضبط وسيطرة الثوار الأوائل لتقع في أيدي الجماهير وتصبح ملكاً مشاعاً لها، وتتحول إلى تمرد مجتمعي هائج مائج بدأ اضطرابه من انسحاب مؤسسات الدولة وغياب الشرطي، ثم تعزز بإخفاق الثوار في إيجاد سلطة بديلة تكبح نزوات أفراد المجتمع، وتضبط المصالح، وتُلزِم الناس حدودهم بقوة القانون. وهنا تتجلى أعجب الظواهر والحوادث في تصرفات وسلوكيات قام بها نشطاء وثوار ومجاهدون هنا وهناك ما كان لها بحالٍ من الأحوال أن تظهر لولا حدوث الفوضى وغياب القانون. من هذه السلوكيات الدالة في هذا السياق إسقاط الأعراف والبروتوكولات الاجتماعية والأخلاقية واستخدام الكثير من الثوار السلاح للمفاضلة بين الناس لا على أساس المكانة العلمية أو الأدبية أو الاجتماعية أو السياسية أو الدينية حتى، وإنما على أساس كم يملك أولئك الناس من القوة العنيفة الردعية التي تدفع عنهم غائلة المتمردين واستفزازاتهم للناس على أساس ثروة محدثة من فائض القوة والاستقواء الذي وفرته لهم الثورة والجهاد ومشروعية حمل السلاح المفترضة. فكم من حملٍ وديعٍ صار ذئباً مفترساً على حين غرّة، وكم من متنمّرٍ كشّر عن أنيابه وما كان يعرف له أنياب في سابق الأيام.   

وهكذا انضمت جموعٌ غفيرة من جماهير حزب البعث ومتحمّسيه إلى الحركات السلفية خصوصاً لما وفرته تلك الحركات من ذرائع سهلة لتكفير الناس وإلغائهم وسحب البساط من تحت أقدامهم ومصادرة أموالهم وأرزاقهم، بل وقطع رؤوسهم باسم الثورة والجهاد وتحت عناوين كثيرة مختلقة. إن الكثير من أبناء طبقة العمال الزراعيين وعمال المعامل الذين لم يروِ انقلاب البعث وسياسات التأميم حقدهم على البرجوازية والإقطاع في ستينيات القرن الماضي وجدوا فرصةً مواتية في الثورة للانقضاض على ما تبقى من ملكيات فردية عند أغنياء الريف من الفلاحين وأصحاب المشاغل والمعامل في المدن التي تحررت فمارسوا على أصحابها ألواناً من الإرهاب شتى فنُهبت معامل حلب، وصودرت آلاف السيارات الفارهة، وخطف الكثير من الآمنين من بيوتهم، فمنهم من قتل تشفياً، ومنهم من خرج بعد أن دفع أبناؤه وذووه جلّ ما يملك للمجاهدين والثوار. نعم، بالنسبة للفئة المذكورة الثورة كانت تمرداً انقلبت فيه كل المعايير، فما من رادع إلا السلاح، والسلاح حكر على الثوار والمجاهدين المستقوين بسطوة محاكم ثورية حاقدة لا ترحم، تبرر لهم جرائمهم باسم الدين والجهاد. لقد كانت الثورة عندهم تمرد المسلح على الأعزل، والفقير على الغني، والأحمق على الحكيم، والجاهل الأمي على العالم صاحب الكفاءات العلمية.

ثم إن من المظاهر العجيبة لسيكولوجيا الثوار والمجاهدين السوريين خضوعهم -بعد إذ تحرروا من الأسد- لدرجة العبودية لأمراء وأرباب جدد خضوعاً أعمى حتى وإن كان الأمير معمماً مجهولاً. فكم من مجاهدٍ قصف بيوتاً وقتل أناساً أبرياء لأن أميره أمره بذلك. إنه لمن المثير للدهشة كيف تحركت أفواجٌ من الثوار لتصبح جنوداً مطيعةً عديمة التفكير بعد إذ نالت حريتها لبعض الوقت وأدركت كرامتها بعد حرمان. وكم هو محبط أن كتلةً كبيرة من الثوار السوريين لم تستمرئ طعم الحرية في نفوسها فعادت للعبودية في أقبح صورها وأكثرها فجاجة. يزعم غوستاف لوبون أن الجماهير محافظةٌ بطبيعتها على الرغم من تظاهراتها الثورية لأنها تعيد في نهاية المطاف ما كانت قد قلبته أو دمرته بأيديها وذلك لأن الماضي أقوى لديها من الحاضر بكثير. لعلّ كلام لوبون ينطبق كثيراً على أتباع وأشياع داعش والنصرة وما شابههما من تنظيمات ولدت على أنقاض الثورة السورية.

 

علِّق