صورة eiad
نشرت في .March 05, 2015

 

يجدر بنا في البداية أن نفهم نشأة وتطور الأعراف في أي مجتمع قديم أو معاصر لكي نستطيع فهم حركة التغيير في ذلك المجتمع. بانتقال المجتمع البشري من صيغته البدائية في حقبة مجتمع الصيد وجمع الثمار إلى المجتمع الزراعي وتطوره نحو العصور الصناعية لاحقا- بدأ الإنسان بتكوين منظومات وأسس لم تحكم بنيته الإدارية فقط بل طال تركيبته الاجتماعية وتعاملات أفراده الاقتصادية.

تبلورت هذه الأسس لتكون الأعراف الاجتماعية التي أفرزت وصاغت فيما بعد العقد الإجتماعي بين أفراد المجتمع. حكمت هذه الأسس الناشئة علاقة الأفراد بين بعضهم كما ساهمت في صياغة تفاعلهم مع مجتمهم ومؤسساتهم الدينية منها والسياسية خالقة قانوناً موازياً يحكم التوقعات السلوكية تحكم الصواب والخطأ. من أسلوب المصافحة والتحية إلى طريقة اللباس والضحك، يصوغ العرف مجتمعه بطريقة تجعله فريدا وتحفظ  له تميزه. يتطور هذا العرف تدريجياً ومرحلياً ليقر المقبول من المرفوض لكنه ظل لاعبا مؤثراً في التطورات والتغييرات الطارئة في محيطه.

رغم أن العرف الاجتماعي لا يتعدى كونه مجموعة عادات وقواعد غير مكتوبة يتشاركها أفراد المجتمع الواحد وتعكس القواعد الاجتماعية السلوك المقبول أو الطبيعي في أي موقف؛ ورغم بساطة مكونه فإن تأثيره أكبر وأعقد بكثير من تكوينه.

لا يحكم العرف الاجتماعي المقبولات والمرفوضات من التفاعلات والسلوكيات البشرية فحسب بل تمتد سلطتها لحكم الأفكار والمعتقدات لا بل وكيفية التعاطي معها. ويغدو العرف نمطاُ شمولياً من المقاربة والتفكير بدل أن يظل مجموعة عادات اجتماعية تحكم "إيتيكيت" الطعام والزواج وتنقل الفلكلور والعادات الخاصة. تصبح الأعراف بوابة على الزمن المرور بها  ويصبح  دور الأعراف وسلطتها وقدرتها على التغيير عاملاً أساسياً في رحلة أي مجتمع نحو التطور.

العرف الاجتماعي والهوية: وسيلة بقاء أم سبب للزوال

لقد عمل هذا العرف كحامٍ لقيم مجتمعاته التي ظلت مغلقة ومعزولة إلى حد ما عن المجتمعات البعيدة جغرافياً وعرقياً ولغوياً عنها. كانت عوامل التغيير الأكبر في تلك المجتمعات تأتي مفروضة بالقوة إما عبر احتلال خارجي بالسلاح أو عبر سلطات داخلية دينية وحاكمة. تفرض هذه الأحداث على المجتمع الاختيار بين التقبل للتغيير أو الزوال. قوّت عوامل التغيير القسرية تلك دوافع المجتمع بالتمسك بأعرافه كونها ضمانته لحفظ تراثه وحضارته في وجه تغييرات عاصفة لكنها- رغم كل دمويتها وقساوتها- ظلت سطحية و مرتكزة على المناحي السياسية والشكلية وتوطيد السلطة. لم تكن الأعراف متحجرة على كل الأصعدة فقد أظهرت طواعية وقابلية لتقبل التغييرات التي لولاها لتهدد بقاء ذلك المجتمع سواء أكانت دينية أو سياسية أو حتى عرقية لغوية. لقد تفاوتت قدرة المجتمعات القديمة على التأقلم واختلف فيها ميزان المحافظة على الهوية مقابل البقاء، ومما لا شك فيه أن قدرتها على التأقلم كانت مفتاحاً لبقائها وحمايتها من الاندثار وبالتالي كانت ضريبة البقاء هي التحور والانفتاح –اللاطوعي في غالب الأحيان- على التغيير الذي كان خارجياً في الغالبية العظمى من الحالات. كان الارتداد للأعراف ومرجعياتها دوماً الخيار الشعبي في مواجهة التغيير جعلت تلك المنظومة الفكرية ومرجعياتها البشرية مفصلية في تطور تلك المجتمعات. الثبات على هذه الأعراف التاريخية القديمة كان الطمأنة الوحيدة التي يمكن لتلك المجتمعات نيلها في ظل الأخطار الوجودية التي واجهوها. فحتى بوجود قانون ثانٍ مفروض ودساتير حاكمة بقي العرف ناظماً أساسياً للعلاقات الفردية والجماعية لتلك الفئات.

أدى التمركز حول القيم البسيطة التي تكونت منها الأعراف إلى منح هذه الأعراف دوراً أكبر بكثير مما يمكنها خدمته. بالمقابل أخذت تلك الأعراف أهمية أكثر مما تستحق وتحولت من مجرد سمت ثقافي يعنى بحفظ هوية تاريخية شعبية إلى قانون عام وحاكم لا يمكن تجاوزه بأي شكل. شيئاً فشيئاً كونت الأمم المقهورة مجالس حفظ حماية لهذا الدستور الهزيل و أطلقت لجان لضمان فرضه وتطبيقه بينهم. هذه المركزية الجديدة أدت إلى توجيه جزء كبير من الجهد نحو حفظ تاريخ ومنظومة بسيطة من المعتقدات التي بدأت شيئا فشيئاً بالتضخم لا عبر التوسع في شرح هذه الأفكار وتطويرها بل عبر إيجاد مبررات لوجودها وآليات لإحاطتها بالقداسة اللازمة للبطش بكل من يتعرض لها، وبين الفينة والأخرى توجد لنفسها تفسيراً ملوياً يجعلها تبدو أكثر منطقية وتقبلاً. هذا التحجر والاستعصاء يخلق في أفق المجتمعات المقهورة حالة من انسداد الأفق أمام التغيير الذي يصعب الفرار منه، مما يجعل عملية التغيير أكثر تعقيداً ويفرض عليها الغوص في أطوار تاريخية أعمق مما تحتاج. ومع مرور الزمن تغدو كلفة التغيير أكبر على هذه المجتمعات ذات المرجعية العرفية الشمولية. فالعرف هدفه الأساسي هو الحفاظ على الإرث البشري والثقافي كما هو. وفي مهب التغيير يعمل العرف جاهداً على مقاومته والحفاظ على جمود التاريخ في كل الأشكال الممكنة. التغيير القادم مرفوض مهما كانت دوافعه، وهو بكل أنواعه سيئ خصوصاً عندما يرتبط التغيير بالمحتل الغازي أو بالغريب القادم وغير المألوف والمعروف.

 

العرف في مواجهة التطور

في الوقت الذي كانت فيه الأعراف الاجتماعية ضمانة تلك الثقافات والمجتمعات للبقاء حية تحت تعاقب محتلين شرسين على مدى قرون طويلة؛ كانت هذه الأعراف بذات الأهمية وذات السلطوية في معاقل الدول القديمة كذلك.  لعبت الأعراف في أوروبا –على سبيل المثال- دوراً في خلق حالة التخلف الحضاري التي عمّت أوروبا في قرونها الوسطى وخلقت حالة من التحجر الفكري والاجتماعي أدى إلى أن يكون تأثير عصر التنوير عليها ناسفاً بالضرورة ومدمراً للثقافة القروسطية التي تراكمت بعيوبها لقرون دون أن تسمح لأي تطور أو تغيير أن يعتريها نتيجة الخوف  من أن التغيير مرادفٌ للزوال.

كان تأخير هذا التغيير والمقاومة التي فرضها العرف سبباً في حدوث نسف للمنظومة الدينية والاجتماعية في تلك الدول. وبخلاف التغييرات الاجتماعية والتحديات التي واجهت الأمم المقهورة في وجه الاستعمار فإن هذا التغيير المدمر في أوروبا القروسطية لم يأت من عدوان خارجي بل كان داخلياً لعبت في إشعاله نخبة فكرية واقتصادية. جاء هذا التغيير القسري تحت تأثير الضغط الذي فرضه عليها متطلبات ذلك العصر الفكرية والسياسية والاقتصادية. لعبت هذه المتطلبات دورا عبر طرح أسئلة وتحديات وجودية في وجه العرف الاجتماعي الذي استمر حتى بعد رفع يد الكنيسة عن الحكم. كان لتلك الأزمة الوجودية دور في تسريع انتقال أوروبا من البطش الكنسي والملكي الاقطاعي، والخلاص من شبح الحروب المقدسة الطاحنة التي استمرت طوال قرون طويلة. لم يحدث هذا التغيير بشكل لحظي بل استغرق على أقل تقدير ثلاثة قرون تخللتها حروب ومجازر ومجاعات مهولة اختبرت كل ما كانت تلك الأعراف تنص عليه وتفرضه. كان على تلك الأعراف أن تخضع لمراجعات وامتحانات عسيرة فرضت على مجتمعاتها أعمالاً شاقة وتحديات حقيقية في سبيل التغيير والتطور.

بالرغم من كل ما شهده عصر التنوير في أوروبا فلا يمكن القول بأنه تم مسح وتدمير أعراف وتقاليد تلك المجتمعات التي طالها بأي شكل. ما حدث هو إعادة صياغة لتلك الأعراف ولدورها. تم بعدها إرجاع هذه الأعراف من كونها "قوانين ومسلماّت ثابتة" إلى كونها آثاراً تاريخية ذات رمزية وخصوصية لتلك المجتمعات. وهكذا استمرت حدوة الحصان في الظهور على أبواب البيوت وتظل احتفالات الخامس من مايو مستمرة حتى يومنا هذا دون أن تتعارض أو تتصادم مع القانون أو العلم أو حقوق الأفراد باتباعها أو تركها.

عندما يكون العرف ذا مرجعية فكرية شمولية متسلطة في أي أمة فإن التغيير في أفكار تلك الأمة لا يأتي إلا بشكل عنيف ومدمر لحظة الاصطدام بالواقع حين يعجز الفكر السائد عن تقديم أي بدائل بل ويكون أداة تدمير هو ذاته حين يكشر أنيابه في وجه الحداثة ويسعى لإزالة وطمس أي أثر للتغيير. يصبح العرف مجرد حالة من الانسداد التاريخي الذي يقف دون مواجهة الأسئلة الحقيقية و يعيق عملية المراجعة الجذرية. وبدل أن يكون حقيقة الوضع الاجتماعي وآلية الحفظ والاستمرار؛ يصبح العرف هو التناقض المطلق بين النص والواقع. أي بين التاريخ والانطباعات السطحية وبين قرون من التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي جاءت بها التجربة البشرية.

 

علِّق