نشرت في .June 18, 2016

 

* محمد داود

 

مايحدث في داريا اليوم وقبلها مضايا وبقين والزبداني ومخيم اليرموك قبل ذلك وحمص والمعضمية والغوطة الشرقية والكثير من المناطق المحاصرة في سوريا لا يذكر إلا بالـ (هولودومور) أو التجويع بالقتل أو وباء الجوع في اللغة الأوكرانية والتي تعتبر أكبر مجاعة في التاريخ الإنساني والتي راح ضحيتها مايقرب من أربعة ملايين مواطن أوكراني مابين عامي 1932 و1933، وقد نفذها النظام الستاليني السوفياتي على الشعب الأوكراني.

يجد المرء صعوبة في تصديق أن أوكرانيا التي كانت تعتبر سلة غذاء أوروبا، والتي تحوي أراضيها ثلث الموارد العالمية للتربة السوداء الخصبة، تعرضت لأكبر مجاعة في التاريخ فكيف حدث هذا؟.

 

قامت الوحدات الخاصة السوفيتية والقوات المسلحة والشرطة بعزل أوكرانيا عن كل محيطها وتطبيق حصار كامل عليها من كل الجهات وفرضت قيودا على حركة الفلاحين الذين يبحثون عن طعام ومنعهم كليا من الحركة وإطلاق النار المباشر على كل من يحاول كسر الحصار، كما أدرجت المناطق المأهولة من مدن وقرى أوكرانية في قائمة (اللوحات السوداء) والتي تعني منع السكان من مغادرة أراضيهم ومصادرة كل المواد الغذائية من لحوم وبطاطا وعباد شمس وأطعمة جاهزة من البيوت والمحلات والمخازن، وإجراء عمليات التفتيش المنظمة لمصادرة الحبوب ومخزونات البذور والممتلكات والملابس والمواد الغذائية، والإعدام المباشر لأي شخص يقاوم أعمال الجيش والسلطة.

القتل بالتجويع إذن هو المصطلح الذي يطلق اليوم على عمليات الإبادة الجماعية التي يقوم بها النظام السوري والميليشيات المساندة له وأبرزهم على الإطلاق ميليشيا حزب الله اللبناني.

قوات النظام السوري وميليشيا حزب الله تحاصر مدينة داريا حنوب غرب دمشق وتدكها يوميا بشتى أنواع القذائف والبراميل وحتى الكيماوي مع الاستمرار بحصار  بلدة مضايا بالكامل، وتمنع دخول المواد الغذائية، تمنع خروج الناس، تطلق النار على كل من يتحرك قريبا من أطراف المناطق المنكوبة.

والأهم من هذا أن الأمر ليس جديدا على النظام السوري، فقد ارتكبه الأسد الأب والذي كان يختبئ تحت العباءة السوفيتية في سبعينيات القرن المنصرم بالتعاون مع ميليشيات لبنانية أخرى وفلسطينية حول مخيم تل الزعتر الفلسطيني والذي تم تجريفه بالكامل بعد المجزرة التي راح ضحيتها مايقرب من ثلاثة آلاف فلسطيني ولبناني، وارتكبه كذلك في حصار مخيمات شمال لبنان عام 1983 وبالتعاون كذلك مع ميليشيات حركة أمل وميليشيا أحمد جبريل التي تشاركه حاليا حصار مخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق.

وهاهو الأسد الابن والميليشيات الداعمة له يرتكبه منذ عامين تقريبا بحق السوريين والفلسطينيين في أغلب المناطق السورية تطبيقا لمقولة (الجوع أو الركوع) عد أن طبق مقولة (الأسد أو نحرق البلد).

 

فالأسدان الأب والابن تعلما فنون الاستبداد من سيدهما الروسي وأبدعا فيه حتى تجاوزاه بمراحل، ومع ذلك مازال الأسد الابن يستعين بالمجرم الروسي والإيراني لزيادة معدلات القتل والموت، لا لشيء سوى للتخريب والدمار وقتل كل شيء حي وتغذية هذه النزعة التي وأدها العالم المتحضر قانونيا على الأقل.

الغريب والشاذ عن الطبيعي فيما يحدث في سوريا عموما ومناطق الكوارث خصوصا، ليس الصمت الدولي أو العربي الذي بات أمرا مفروغا منه طوال سنوات الثورة السورية الخمس الماضية، والذي أدى إلى تسميتها بالثورة اليتيمة ، ولكن أن تجد أشخاصاً يعتبرون أنفسهم بشرا لايرون فيما يحدث إلا فعل كوميديا يوجب الضحك والسخرية من الضحايا حتى لو كانوا أطفالا أو مسنين.

لبنانيون لجأوا ذات صيف كارثي إلى نفس المنطقة التي كانت تعتبر سلة فاكهة الشام يسخرون من الضحايا يصنعون أعمالا وصفوها بالفنية ويقدمون صورا متنوعة لأطعمة فاخرة ولحوم وفاكهة ويطلقون عليها حملة (أنا متضامن مع مضايا) . ثم أكمل سفيه مصري يطلق على نفسه اسم كوميديان أو فنان بالسخرية من آلام مدينة حلب العظيمة . وجاءت المرأة المسخ مستشارة السفاح بثينة شعبان لتنفي ماتتعرض له داريا من جوع وتدمير، فهي ترى أن أهل داريا ليسوا بحاجة للمساعدات الغذائية بل أنهم سلة غذاء دمشق ولايحتاجون من يطعمهم.

 

لن يتوقف هذا الحصار هنا، ولن يتوقف المجرم عن تطبيق إجرامه في كل الأماكن المتاحة له، ليسترد شيئا من ملكه الذي ضيعته الثورة السورية، وعقوبة للبشر الذين قالوا لا في بداية ربيع حالم . طالما المجتمع الإنساني يقف متفرجا على تكرار المأساة يوما بعد يوم وقتيلا بعد قتيل.

هانحن اليوم نتحدث عن مجاعة أوكرانيا بعد مرور أكثر من ثمانية عقود عليها، وسيتحدث آخرون في أجيال قادمة عما حدث هنا في هذه البقعة الصغيرة من العالم وكيف تركت لضباع الأرض تنهش في لحمها الحي. ولربما سيحظى الضحايا باعتراف أممي بالجريمة التي حدثت بعد مرور عقود عليها.

ستنهض داريا ومضايا من جديد وسيزرع أبناء الضحايا التفاح والكرز في سهول الزبداني مرة أخرى، وستكمل مضايا مهمتها في تزيين كل بيت سوري وعربي بفاكهتها ،وستستقبل عشرات الآلاف من السياح العرب في بيوتها وقصورها الممتدة على طول السهل صيفا وشتاء، وكثيراً من اللاجئين إن أصابتهم مصيبة مرة أخرى. وستستمر داريا  برعاية أخواتها من البلدات وتزويدها بكل ما يشرح القلب وستؤثث بيوت المدن القادمة بفنونها الخشبية.

 

لكن سيبقى العار مخيماً على رؤوس الجميع، فكيف  سيسجل التاريخ العربي والإنساني تصرفاتنا وعارنا الحالي والقادم اتجاه ما يحدث؟.

 

 

*محمد داود ـ صحفي كاتب فلسطيني

علِّق