عدد القراءات: 448

من يزرع الوهم لا يحصد سوى الخذلان

 

لم يكن في تصوّر أحد من السوريين أو غيرهم، أن يمتدّ الصراع السوري لستّ سنوات مفتوحة على المزيد والمجهول حتى الآن، ولا أن تتعمق أبعاد هذا الصراع في نفوس المواطنيين المسالمين النفسية والوجدانية وفي الوعي العام إلى هذه الدرجة، التي غدا السوريّ فيها بحاجة لهويتين للتعريف بنفسه، والتعبير عن وعيه، بمدى اقترابه من أحد أقطاب الصراع الدائر بالسلاح أو بالسياسة العامة، ولم يكن متوقعاً أن يتشعب الصراع أيضاً، ليصير التعبير عن الموقف الوطني الحريص على الهوية السورية الجامعة ليس كافياً للدلالة عليك، بل عليك اليوم أن تكون براغماتياً بارداً، إلى درجة، أن تفتش خلف كل سوري أو الجناح الذي ينتمي إليه أو يناصره، عن دولة راعية أو أخرى، وأن تعبر عن احترامك لها لأنها صارت معياراً أساسياً لثقة الآخرين بك واقترابهم منك ، أو مدى تجريمهم ومعاداتهم لك !

 

والأنكى والأخطر أنه لم يكن في تصوّر أحد ولا في وعيه، أنّ النتائج الواقعية للصراع ستنفتح على بوابة الجحيم الذي انفتحت عليه، ليتشتت السوريون في أصقاع الأرض أو يظلوا فريسة للموت والتدمير وحصار الجوع وسجون الأسد التي فاقت سجون (الغستابو) هولاً وإيغالاً في الإجرام،المنفلت من كل وازع من ضمير أو وجدان، أو من شعور أنّ التعذيب يطول من كانوا حتى الأمس القريب أخوة، في الانتماء الوطني السوري، وذنبهم أنهم هبّوا لاسترداد كرامتهم ورفع الطغيان والجور وللدفاع عن حقوقهم في العيش الحرّ الكريم، الذي تكفله شرائع الأرض والسماء، والغريب أنّ العولمة بطابعها الإنساني العام وبكلّ ما تمثله من إنجازات علمية ومعرفية فاقت التصوّر، تقف عاجزة أو متفرجة على شلالات دم، يمكن لها أن تفيض، لتغمر حتى بلدانها البعيدة وعمرانها وكل إنجازاتها، فتقلق طمأنينة مخادعة ملغّمة، قادهم إليها جشعهم وأنانيتم وذهابهم إلى الاستثمار السياسي الخاطئ في الإرهاب والتطرف، والذي انقلب أكثر من مرة وسينقلب سحره على الساحر، ولاسيما أنهم جربوه مرة بعد مرة ولم يتعظوا، فكأنّ تجاربهم المريرة في ثمانينيات القرن الماضي، حين استثمر جورج بوش في تنظيم القاعدة والطالبان في مواجهة السوفييت، فانقلب الوليد المتبنى من الإدارة الأمريكية على آبائه السياسيين، وأن تجربة الحرب المريرة على العراق 2003 لم تقتصر على مزيد من الفوضى والتقاتل والدمار فحسب، بل أخذت تصدّر فوضاها واقتتالها وكل ما ترتب عليها من نتائج كارثية، لدول الجوار العربي والإقليمي وتنطلق منه إلى سائر القارات والبلدان.

 

لم يعد كافياً أن نلقي باللوم على الاستعلاء ومنتهى الأنانية والجشع الأمريكي والدولي، ولم يعد مجدياً أن نعيد تعريف الهوية السورية، بمقدار اقترابها او ابتعادها عن مراكز الصراع المتشعب العسكري والسياسي الدائر على أرضنا، وذلك لأننا أينما وقفنا سنجد أنفسنا على أرض ملغمة بغرباء لا يشبهوننا بسحنات وجوههم ولا بأجنداتهم، بل ستجد أنك الغريب بينهم، لأنك تقف عارياً من سلاح النظام وحماته الإقليمين والدوليين، ومن سلاح الفصائل المتأسلمة المراهنة على نسف الهوية السورية أو ما تبقّى منها، لتنفتح على وهم دولة أممية تعيد مجد الخلافة، ليس لأنها محل توافق على خيار أفضل، بل لأنها تمنحهم الأرض والسلطة والشعب المغلوب على أمره، ليغسلوا دماغه ويتحكموا بثقافته ووعيه وبسبل عيشه، ويردون هذا كله لإرادة علوية، تنظمها الشريعة المصطفاة وفقاً لرغباتهم ولشهوة السلطة والافتراسن المنفلت من كل قيد.

والان وبعد كلّ هذه المعطيات العميقة الدلالة، على مدى ابتعادنا عن هويتنا السورية الجامعة، عرباً وكرداً وآشوريين وتركمان وأرمن وغيرهم، وديموقراطيين ليبراليين علمانيين ومن إسلاميين سياسيين سريعي التحوّل في معايير التشدد صعوداً وهبوطاً، بما يتوافق وبرغماتيتهم ومصالحهم، باعتبار أن هذه المعايير هي وحدها في اللحظة الثابتة معيار ضرورة، لتعرف أين أنت اليوم وقد تتوقع أين يصيرون غداً.

 

أريد أنا المواطن السوري كما يريد غيري، ممن لم يتحزّبوا لسلاح ولا ربطوا حريتهم بالرهان على نتائج صراعه، ولاسيما أنّ المنتصر في حربنا المشؤومة، كان وسيكون هو الأكثر قدرة على سفك المزيد من الدم السوري والتدمير والتهجير وحصار الجوع والبرد والمرض، لذا أريد وأتمنى أنا المواطن العادي، أن لا أعرّف نفسي إلا بهويتي السورية وحدها، وبما لا يعني التنّكر لهويتي الثقافية الصغرى، طالما أنها مهادنة وثابتة في حدودها الجغرافية الضيقة ، ولا تطمح أن تغدو جهادية ولا عدوانية تحمل طموحات استراتيجية بعيدة المدى، أريدها فقط ألا يتعدى استمرار جودها رفد الهوية الوطنية الجامعة، لا أن تنضمّ إلى جملة الهويات التي تتحفز للانقضاض على الهوية السورية الثابتة، ولا يتعدى انتمائها شكل انتماء الفروع للأصل، والروافد لمجرى نهرها الوطني الأساس، لذا  سأتنكّر لكل الهويات المذهبية التي طفت على وجه الصراع، ثمّ تحولت إلى إحدى محركاته الأهمّن وهي الهويات (القاتلة) الأخطر حتى على أصحابها أنفسهم من غير المحازبين والتابعين.

أريد أنا المواطن السوري المنطوي على ملامح لهوية ثقافية صغرى، نمت على أرضية وطنية وجدانية وثقافية تاريخية، جمعتني بكل السوريين مقربين وبعيدين، أصدقاء وخصوم سياسيين، قوميين من عرب وكرد وآشوريين، أن أصرخ في وجه العالم المتغطرس المنافق، هذه هويتي ولا أطمح لهوية غيرها، وأن أعلن لكل صاحب ضمير ووحدان إنساني، أنني بريء من كلّ من قتل سورياً، بغير الدفاع عن نفسه وعرضه، وبغير الدفع عن حقوق المواطنة المتساوية والعادلة، فمن يساندنا ويأخذ بيدنا السورية، ويساعدنا لكي  ننهض من عثارنا ومأساتنا، من غير منة ولا إتباع وإذلال، لنكون معاً أبناء الحرية والعدل أبناء الحياة !       

هو لكم أيها السوريون الأحرار، عسكريون وقادة سياسيون، مشرعون وشرعييون، فها أنتم  تعون اليوم تماماً ، أنّ من لم يتعلم حكمة التاريخ محكوم عليه، أن يعيش مأساته مرتين، وأن من يبع الوهم لنفسه وللآخرين لا يحصد غير الخيبة والخذلان !            

 

علِّق