نشرت في .May 07, 2015


تعرَّفت إلى صديقٍ لُبناني منذ 25 عاماً؛ حين كانت لبنان مُحتلّةً أسدياً.. بتفويضٍ عربي - إسرائيلي - أمريكي؛ لم يكن في هذا الصديق.. تلك النقائض اللبنانية؛ و بخاصةٍ.. ضدّ السوريّ؛ لمجرَّد أنه مواطن في دولة الأسد؛ كنَّا اثنين.. مُنتزَعَةٌ مواطنَتُنَا بالتساوي؛ فيما يُشبِهُ.. وطنين وبلدين وعَلمين وجيشين.. و " سَوَا ربِينَا.. سَوَا قَضَّينا ليالينا ".
ثم فاجأني يوماً.. فأهداني ديوانَ شعرٍ له؛ ناعمٍ.. بحجم كتاب الجيب:
- طَبَعتهُ على حسابي؛ لست شاعراً.. لكني جمعتُ فيه.. ما يُشبِهُ القصائد التي كتبتها خلال الحرب الأهليّة اللبنانية.
شكرته على تلك المفاجأة.. فاستدركني:
- لم أوزعه على المكتبات؛ أُهدِيه فقط.. لأصدقائي؛ وأرجو أن لا تكتب عنه أيَّ مقال؛ أنا.. لست شاعراً؛ وهذه مجرّد.. تراتيل شخصية.
أخذت أقرأ ديوانه.. و أنا في طريقي إلى دمشق؛ فأحسستُ منذ أول قصيدة؛ بأنه يكتب.. كما لو أنّ يوحنّا المعمدان؛ قد وضع يداً على جبينه؛ و يداً وراء عنقه عند مُلتقى كتفيه؛ ثمَّ غطّسَهُ في نهر الأردن.. يُعَمِّدُه؛ ليغسل عنه.. خطاياه.
وعند نقطة الحدود السورية.. لمح ضابط أمنٍ أسديّ.. ديوانه في يدي؛ فسألني: - شو هالكتاب.. اللي معك؟!.
قلت: - شعر.. ديوان شعر.
وناولته إيَّاه.. قبل أن يطلبه؛ موفّراً على نفسي تهذيبَهُ المتأصِّلَ فيه!.
قلّبَ الصفحات على عجل؛ ثم توقّف عند صفحةٍ.. وأخذ يقرأ بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ.. فائقةِ الجودة:
" أنظر إلى وجهي في المرآه
فأرى طلقةً بين عينيّ "
ثمّ سألني: شو قَصدو.. مِن هَالحَكِي؟!
أجبته على طريقتنا السورية في مُخَاتَلَةِ رجالِ الأمن:
- هادا واحد عشقان؛ و بدُّو ينتحر لأنِّي حبيبتو هجرته!
ضحك أخيراً.. ضابط الأمن؛ كما لو أنّي أروي له نُكتةً حمصية؛ قال:
- الله لا يرِدُّو.. لو أنا مَحَلّو.. كنت قَوَّصتها من بين عينيها.
ثم أعاد لي الديوان.. مُلطَّخاً بدمٍ طازجٍ لِتَوِّه؛ و بشهقةٍ من شفتين أنثويّتين؛ لحظةَ اختراقِ رصاصةٍ لجبينها.. بين العينين.
دخلتُ دمشقَ من خانِقِ ربوتها.. بديوان شعرٍ مُضرَّجٍ بالدم؛ حتى أنّي لم أُكمِل قراءةَ ما تبقّى من القصائد فيه.
ثم أنّي عُدتُ إلى بيروت.. مرتين؛ و التقيت صديقي اللبناني.. مرتين؛ وفي المرَّة الثانية.. كنا وحدنا؛ فرويتُ له.. ما حدث لديوانه مع ضابط الأمن الأسدي؛ لم يضحك.. لم يُعلِّق.. انداحت عيناه بعيداً؛ ثمّ.. اعترفَ لي: 
- كنت خلال الحرب الأهليّة اللبنانية.. قنّاصاً.
  لُذتُ بكأس البيرة؛ وبعد صمتٍ ثقيل.. سألته : - مَن كنتَ.. تقنص؟!. 
قال: - لم أكُن أُمَيِّزُ أحداً.. مِن أيِّ أحد؛ كنتُ شاباً.. وشِبهَ مُراهِق؛ قالوا لي: "طائِفَتُنا.. في خطر؛ وأنت صيَّادُ حَجَلٍ وأرانبَ وخنازيرَ بريّة؛ هذه أحسنُ بندقيةِ قَنصٍ في العالم؛ هِيَ لكَ.. فاقتلهم؛ لتحمي طائفتكَ مِن أعدائِهَا".
سكَتَ صديقي اللبناني.. طويلاً؛ ثمَّ قال:
- قالوا لي اصعد إلى هذا البيت؛ فيه شرفةٌ تُطِلُّ على أعدائنا.. فاقنصهم منها؛ كان البيت مهجوراً و خالياً من سُكَّانِه؛ وفيه مكتبةٌ مليئة بالكتب؛ وفي استراحة المحارب كما ُيقال.. خطفت كتاباً؛ وأخذتُ أُقلِّبُ صفحات  ديوان شعرٍ مُترجم؛ كان اسمه: أزهار الشرّ.. لبودلير؛ هكذا.. كتاباً بعد كتاب؛ بدأتُ أُشفَى من غسيل الدماغ الطائفيّ؛ جعلني الشعر.. قصيدةً تِلوَ قصيدة؛ أتوقفُ عن القَنص.

ثم تابع:
- هربتُ من الميليشيا الطائفية.. تاركاً قنّاصتي مركونةً على المكتبة ذاتها؛ هربت إلى آخر الأرض؛ إلى آخر المحيطات؛ إلى أوستراليا..لأنسى.
هززت رأسي.. متضامناً معه؛ فتابع:
- في أوستراليا.. صارت الضحايا تزورني في مناماتي؛ صارَ لها ملامحُ لم تكن موجودةً لها.. في بيروت؛ حتى صرتُ.. أعرِفُها؛ رجلاَ.. أو امرأةً؛ وصرتُ  أُحِسُّ بطلقاتي التي أودَت بهم.. تُصِيبُني في رأسي تماماً؛
لم يستطِع أحدٌ شِفائِي.. سِوَى الشِعرِ الذي كتبتُهُ.. كصلاةٍ صامتةٍ مِن أجلِ    خلاصِ أرواحهم.. ومن أجلِ خلاصِ روحي. 
رَشَفَ.. آخرَ ما تبقّى من كأسه؛ ثمّ أطلق تنهيدةً.. كما لو أنها النارُ تخرجُ من رئتيه:
- آآآآآآآآخ.. كَم كانَ زعيمُ طائِفَتِنا.. يستحقُّ كلَّ طلقاتي؛ وفي منتصفِ جبينِهِ.. تماماً.

بيروت - استانبول / 1990 - 2015 ق.م الحرية.
 

التعليقات

بوركت كم نحن بحاجة إلى هذا النور في هذا الليل البهيم

علِّق