الثورة الطاردة لمن يلحقها...!!

 

* بسام جوهر

 

في الشهر الأول من عام 1987 و في مبنى القيادة العامة للجيش و القوات المسلحة، وتحديداً في فرع الضباط التابع لشعبة المخابرات العسكرية، قام المقدم علي يونس (الذي أصبح لواء الآن ) بنزع رتبتي  قائلاً لي : انت لا تستأهل حمل هذا الشرف العسكري أيها الخائن !!!!

في ذلك الوقت لم يشفع لي انتمائي الى أسرة علوية ولا علاقات أبي الواسعة مع كبار الضباط، و في مقدمتهم محمد ناصيف، من بقائي في السجن اثني عشر عاماً، منها حوالي خمس سنوات في سجن تدمر الرهيب، الذي يعتبر وصمة عار في جبين الإنسانية، وجريمة بحق الشعب السوري يحمل وزرها الديكتاتور الأب و من بعده الابن .

 

الآن و رغم إعلان بشار الأسد، في بداية الربيع العربي، أن سورية لن تشهد ثورة ضد نظامه لما يحمل هذا النظام من (قيم وطنية..!!) حسب زعمه، إلا أن التاريخ اتخذ منحاً آخر، و قامت الثورة في سوريا، و استبشر معظم السوريين الخير في التغيّر القادم و المنشود و في مقدمتهم هؤلاء العلمانيين الذين دفعوا ثمناً باهظاً من حياتهم و حياة عائلاتهم في أقبية جلاّد سوريا الرهيب، والذين يعتبرون أنفسهم أبناء هذه الثورة، لا بل يعتقدون أن الثمن الذي دفعوه ربما قد يكون هو ما مهّد الطريق إلى قيام هذه الانتفاضة الشعبية، انتفاضة الكرامة .

لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، و أصبحت هذه الثورة عاملاً مهمّاً في طرد هؤلاء العلمانيين من بين صفوفها، استكمالاً لما بدأ النظام فعله منذ زمن بعيد، وهو محاولة دفنهم و هم أحياء .

الجميع يعرف أن الثورة السورية، في بداياتها، قامت على مشروع وطني لسوريا كلها، هدف هذا المشروع، و باختصار إنهاء نظام الاستبداد و إحلال نظام يحترم المواطن و حريته و عقله، و الجميع كان يدرك أيضاً أن النظام -و بما يملك من سلطة و مال_ سيعمل على هدم هذا المشروع بشتى السبل والوسائل، و أولى محاولات النظام لهدم هذا المشروع  كانت إعادة تشكيله على أسس طائفية وعرقية، لأنه يدرك أن إطالة أمد بقائه في السلطة تعتمد بشكل أو بآخر على تحويل الثورة و مشروعها إلى حرب أهلية طائفية، و كان له ما أراد، حيث أن الطرف الآخر في الصراع تلقّف محاولة النظام هذه برحابة صدر، و عمل على أسلمة الثورة، بل عمل على تسنينها (أي حصرها بالسنة فقط) و مع تطور الصراع تحولت هذه الثورة الى التطرّف و عملت على إقصاء كل صوت وطني و ديمقراطي و علماني بحجة الكفر و معاداة الشريعة السماوية، لا بل أصبح كل علماني منبوذاً بحجة أنه يروّج للنظام بأفكاره و سلوكه.

 

هكذا و بالمحصّلة، تعاون النظام الاستبدادي و (الثوّار فيما بعد ) على وأد أي مشروع وطني، و على طرد أو قتل أو نفي أي صوت وطني علماني، و تبعثرت قوى هذا التيّار تحت الضربات المتوالية للنظام والفصائل الإسلامية المتطرّفة، وانتهى بهم الأمر إما الى القبور أو السجون أو المنافي، و ما حصل للصحفي هادي العبدالله و رفيقه الصحفي خالد العيسى ( الذي استشهد ) من جهة، و ما حصل لعبد العزيز الخيّر و أبو علي الصالح  و غيرهم كثيرون  من جهة أخرى، خير دليل على ذلك .

إن أسلمة الثورة و حصرها بطائفة معيّنة  (السّنة) يعني مقتلها، لذلك و إدراكاً من النظام و من خلال معرفته العميقة بغباء الطرف الآخر، عمل على تشجيعه على المضي قدماً في هذا المسار من خلال إطلاق بعض المتطرفين  (و الذين سيصبحون أهم قادة المعارضة المسلحة لاحقاً)، والسماح لهم -أو تأمين الظروف المواتية-يقوموا ببتشكيل فصائل مسلّحة،  و ربما تزويدهم بالسلاح وتسهيل حركتهم مع بداية الثورة، ونفّذ ذلك بمسرحيات ذكية لكنها لا تخفى على متبصّر، كأن يظهر تسليم السلاح للمتطرفين بأنه ناتج عن عملية فساد وخيانة في أوساط الجيش وقوى الأمن، وغيرها من السلوكيات الأخرى المشابهة.

بعد أن اطمأن النظام على توريط الثورة  وإلباسها لباس الطائفية، وإظهارها أمام العالم أجمع على أنها مجموعة من الارهابيين الاسلاميين، عمل على إظهار نفسه على أنه حامي العلمانية والأقليات واستطاع أن يجعل من شباب هذه الأقليات (ومن الكثير من شباب الطائفة السنية ) وقوداً لحربه ضد الشعب السوري، وضد أي تغيّر يطال بنيته العسكرية والسياسية .

 

كثيرون يلومون الأقليات، والعلويون حصراً (وانا منهم ) بالانجرار وراء بشار الاسد في حربه المجنونة والعبثية، لكن هل يستطيع أحد أن يقول ما هي الخيارات المتاحة أمام العلوي في هذا الوضع المأساوي وهذا الاحتقان الطائفة المقيت؟ هل سيذهب الى الجولاني أو أحرار الشام أو البغدادي أو أي أحد آخر ممن لديه فتوى جاهزة بقص رقبته .

لقد أسرّ لي ضابط برتبة عميد، وهو واحد من بين مجموعة من الضباط الذين آثروا الاحتفاظ بعلاقة ودّية معي رغم ما تحمله هذه العلاقة مع سجين سياسي من خطر على مراكزهم في الجيش، أقول لقد اسرّ لي: بأن حوالي ثلاثمائة ضابط علوي تم استدعاؤهم الى فرع الضباط وذلك لعدم تنفيذهم الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، ولقد اختفوا ولا نعرف ما هو مصيرهم حتى الآن . (كان هذا الكلام في عام 2012 )

كذلك اعترف جمال معروف، في مقابلة على الاورينت -وهو أحد قادة الجيش الحر الذي استباحته جبهة النصرة في ادلب- اعترف بأن ثلاثة من الضباط العلويون انشقوا عن النظام وانضموا الى مجموعته، لكنهم بعد فترة آثروا الرحيل، وعندما سُئل الى اين ذهبوا قال لا أعرف، وانا أعتقد أنهم ذهبوا الى حتفهم، إما على يد المتطرفين او على يد النظام .

إذاً المصير الذي ينتظر أي ضابط او عنصر من الأقليات يخرج على الأسد هو السجن او الموت ولا خيار آخر .

 

في النهاية وفي ظل هذا الاستنقاع السياسي، ومع استمرار العجز في الحسم العسكري بين طرفي الصراع، وفي ظل غياب شبه كامل للقوة الديمقراطية والعلمانية، فإننا لا ننتظر سوى مزيد من حالات طرد الثورة لأبنائها الحقيقيين، ومزيد من التطرّف في صفوف الفصائل الإسلامية المقاتلة، خاصة وأن الصراع الآن تحوّل من صراع بين نظام مستبد وشعب يتوق للحرية، الى صراع بين استبداد نعرفه وخبرناه جيداً، واستبداد آخر تلوح بشائره في ممارسات كافة الفصائل الإسلامية المقاتلة، ولا فرق هنا بين إسلام معتدل وآخر متطرّف إلا بالشكل .

 

* بسام جوهر ضابط سايق في الجيش السوري، معتقل لمدة 12 عاماً بسبب معارضته لممارسات النظام، وانتمائه إلى حزب العمل الشيوعي، يقيم الآن في فرنسا بصفة لاجئ سياسي

 

علِّق

المنشورات: 2
القراءات: 322374