صورة eiad
نشرت في .November 06, 2014
الناشر تاريخ النشر الكاتب ترجمة الرابط الأصلي للمادة
Wall Street Journal Christian C. Sahner ديمة غزي اضغط هنا

رغم أن التدمير المتعمد لتراث سوريا التاريخي – من المعابد الرومانية والكنائس البيزنطية إلى الجامع الأموي والقلاع الصليبية والقصور العثمانية – قد حظي بالكثير من الاهتمام إلا أن الغاية الحقيقية وراء ذاك التدمير لم تكن دائماً واضحة. فتلك الأفعال لم تقع لمجرد التخريب او الانتفاع. بل هي جزء رئيسي من الحرب التي حصدت أرواح ما يقارب مائتي ألف من السوريين خلال السنوات الثلاث الماضية في نزاعها على الهوية والقيم والتاريخ. حيث استغل المتحاربون التراث المحلي لتمويل القتل وتصفية الحسابات الطائفية وإلغاء فصولٍ كاملةٍ من تاريخ الدولة تمهيداً لتغيير مستقبلها.

إن أوضح مثال تتجلى فيه الحرب السورية على التراث الثقافي هو بيع الآثار المسروقة من مواقع التنقيب والمتاحف للحصول على المال والسلاح وهو عملٌ أنسب ما يوصف به أنه بيعٌ لـ"ماسات الدم" (ماسات الدم هو تعبير يطلق على الماس المسروق من مناطق الحروب والمُباع بأثمان زهيدة لتمويل النزاعات). وتشمل البضائع المطلوبة في السوق السوداء أعمال الفسيفساء الرومانية والتماثيل التدمرية والحلي ومخطوطات العصور الوسطى والقطع الأثرية الدينية التي تعود إلى ما قبل التاريخ. كل هذه القطع ينتهي بها المطاف إلى إحدى المجموعات الخاصة لجامعي التحف في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية. وتعود هذه التجارة بالربح على كثير من المجموعات المتناحرة في سوريا بما في ذلك ميليشيات النظام وكتائب الثوار. لكن الدولة الإسلامية في العراق والشام أو داعش هي أحد أسوأ الجهات سمعة في هذا المجال. فوفقاً لما ذكر الباحثون سلام القنطار وعمرو العظم وبراين دانيالز تشكل تجارة المسروقات الأثرية مصدر دخل ثابت لداعش وخاصةً من الضرائب التي تفرضها على المهربين والناهبين العاملين ضمن مناطق سيطرتها. و رغم أن الأموال التي تدرها المتاجرة بتلك المسروقات قد لا تكون بحجم أرباح بيع النفط أو سرقة البنوك إلا أنها تجارة تدر عليها سنوياً ملايين الدولارات التي تُنفق على السلاح وتدريب الإرهابيين وما إلى ذلك من مصارف الحرب.

وعلى الرغم من مأساوية هذا العمل إلا أن نهب التحف والأثريات من مناطق النزاعات ليس بالأمر الجديد فهو موجود حيثما تسود الحروب ويغيب الاستقرار. ولكن حرب سوريا على التراث الثقافي تتميز بالتدمير المتعمد لمواقع ذات دلالة دينية بهدف تأجيج الأحقاد الطائفية. فالمجموعات المشابهة لداعش تتبع نسخة متعصبة من الإسلام السني تسمى الوهابية وهي تعتبر الشيعة كفاراً وتحارب زيارة القبور والمقامات وهي عادة متبعة في العديد من الدول المسلمة السنية والشيعية. فهذا السلوك بنظر الوهابيين يعتبر شركاً ولذلك يأخذون على عاتقهم مهمة تدمير تلك القبور كلما سنحت لهم الفرصة. وقد لمسنا ذلك جلياً في قرية دير حافر شرق مدينة حلب حيث قام مقاتلو داعش بـ"توعية" سكانها بمخاطر عبادة القبور. ورأينا صوراً يقوم فيها السكان المحليون بالمساهمة في تكسير ضريح تعتليه قبة خضراء. ولكن أغلب الظن أن هؤلاء القرويين قد أُجبِروا على القيام بذلك إجباراً إذ أن نهج داعش المتزمت نهجٌ دخيل على أسلوب الحياة في العديد من أنحاء سوريا حيث تعد زيارة القبور عادةً ضاربة في القدم في الحياة الدينية.

ولا يخلو تدمير الأضرحة من دلالاته السياسية في المعركة الدائرة بين المسلمين السنّة وخصومهم في الحلف الشيعي بقيادة الطائفة العلوية التي ينتمي لها بشار الأسد. فلقد بلغ كره داعش للشيعة مبلغاً من التطرف قادهم إلى تسفيه حلفائهم السابقين في جبهة النصرة –الجماعة المرتبطة بالقاعدة والتي بدورها ليست من الملائكة– لعدم  تدميرهم الأضرحة الشيعية. ويعد أحد الأمثلة على هذا جامع أويس القرني في الرقة الذي بُني بين التسعينات من القرن الماضي وأوائل الألفين بمساعدة إيرانية لإحياء ذكرى أحد صحابة الإمام علي،فقد  قامت جبهة النصرة عندما سيطرت على الرقة  بإغلاق المسجد فقط بينما دمرته داعش تماماً في شهر أيار 2014 وحولته كومة من الحطام.

أما المليشيات الشيعية في العراق ولبنان فقد بررت قتالها في صف بشار الأسد بحجة واهية وهي حماية مقدساتها في سوريا. وتذرع زعيم حزب الله حسن نصر الله بحماية المساجد ومواقع الحج الشيعية وبالأخص منطقة السيدة زينب في جنوب دمشق التي تعرضت لقصف عنيف من قبل الثوار. وعلى الرغم أن الكثير من الشيعة في الخارج يشعرون بالقلق على هذه المواقع ويرغبون في أن تبقى آمنة إلا أن قادة الشيعة يستغلون هذا الشعور ليغطوا على أهداف استراتيجية أعمق تجمعهم مع بشار الأسد وأسياده الإيرانيين. وقد كان تأثير الميليشيات الشيعية كبيراً في الحرب الأهلية السورية وكان لهم الفضل في ترجيح كفة النظام في العديد من المناطق المتنازع عليها.

وقد أثار التحالف بين الأسد ومختلف المجموعات الشيعية سخطاً شديداً بين صفوف الثوار السنّة. وقد اتهم كثيرون منهم النظام بالاستهداف المتعمد لمساجدهم كنوع من العقاب الجماعي للسنّة في حلب وحمص ودرعا. ومن أغرب ردود الفعل كان فيديو ظهر فيه زهران علوش واقفاً أمام قصر الحير الشرقي، وهو أحد القصور العظيمة التي بناها الأمويون في الصحراء السورية في أوائل القرن الثامن الميلادي، منادياً من موقعه ذاك بإنشاء الدولة الأموية من جديد ثم مضى يدين الشيعة المسيطرين على دمشق اليوم وسماهم بالمجوس (أتباع الديانة الوثنية في إيران القديمة). ويكتسب كلام علوش أهمية خاصةً لكون الأمويين قد استحوذوا على الحكم في العام 657 بعد الميلاد بعد أن أطاحوا بالإمام علي الخليفة الشرعي للرسول بنظر الشيعة. وفي الفيديو مزيج من التعصب السنّي والقومية العلمانية السورية. وهو بالإضافة إلى ذلك مثال واضح على استخدام المعالم التاريخية للترويج لمخططات سياسية معاصرة بل معاصرة جداً.

ورغم كون الصراع السني - الشيعي المحركَ الأهم في الحرب على تراث سوريا إلا أن الصروح المسيحية أيضاً لم تنجُ من الضرر وإن كانت ظروف تخريبها أكثر غموضاً. ففي الكثير من الأحيان لا يتسنى معرفة المسؤول ولا إن كان الأذى قد تم عمداً أو بالخطأ كما حصل غرب سوريا في مدينتي معلولا والقصير اللتين تضمّان الكثير من السكان المسيحيين. وفي مثال صارخ على الانتهاكات تم نزع جميع الصلبان من كنيسة أرمنية كاثوليكية في الرقة ومن ثَمَّ تحويلها إلى مركز لنشر الفكر الإسلامي المتشدد. ويعتبر وضع المسيحيين في الرقة أسوأ من غيرهم في سوريا رغم أن جميع المسيحيين يعانون ظروفاً صعبة. فقبل أشهر من مشكلة اليزيديين والمسيحيين في الموصل وضعت داعش مسيحيي الرقة أمام خيارات ثلاثة فإما أن يُسلموا أو يدفعوا الجزية أو يواجهوا الموت.

إن تدمير كنوز سوريا الأثرية ليس إلا صورة رمزية عن وحشية الحرب الأهلية. فتدمير المعابد والكنائس والمساجد والمتاحف نتيجة حتمية لنزاع لا يقيم بالأساس وزناً لحياة الإنسان ولا لتراثه. وهذا يتجلى في الأعداد المتزايدة للضحايا وأفواج اللاجئين التي تغص بها الحدود السورية واستخدام الأسلحة التي تشوّه الإنسان وتهين كرامته. إن الاعتداء على التراث الثقافي السوري هو اعتداء أيضاً على الشعب. وسواء كان هذا الاعتداء يستهدف السنّة أو الشيعة أو المسيحيين أو أي مجموعة أخرى فهو يرمي إلى محو شعوب بأسرها بحرمانها من تاريخها في هذه البلاد المشهورة بتنوع حضاراتها. وعندما يدمر أطراف النزاع تاريخ سوريا فهم بذلك يخاطرون بتدمير مستقبلها أيضاً. وللأسف وكما نرى حالياً في الحرب على التراث فهذا التدمير لماضي سوريا ومستقبلها أصبح في طريقه ليغدو واقعاً.

  • Christian C. Sahner

علِّق