إنَّ نقد الذات التراثية وفي العمق أصبح ضرورة ملحة لا يمكن تأجيلها أو السكوت عليها. إننا لا نذيع سراً إن قلنا بأن أزمة الوعي الإسلامي وصلت إلى درجة خطيرة من التأزم والتفاقم، ومع ذلك يعتقد البعض بأن نقد الذات التراثية هو نوع من الترف الفكري. إننا نقطع بأن المسلمين- كل المسلمين- وليس فقط العرب قد وصلوا إلى مفترق طرق: الانخراط في عملية نقد الذات، وهي عملية جراحية خطيرة ضرورية لا مندوحة عنها لمصالحة المسلمين أنفسهم مع التطور والحداثة، وإما الانقطاع عن الحنيفية (التطور) وحركة التاريخ كلياً، والبقاء سلفيين مُهَمَّشِينَ قابعين في مؤخرة الأمم .! فبعد أن قيد أصحاب الطوائف والمذاهب- الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً- التنزيل الحكيم وسجنوه وحولوه إلى نص سلطوي، قسري، إكراهي، وبعد أن أخرجوه من سِباقه وَسِيَاقه أصبح الحديث عن الفقه الإسلامي بحد ذاته مهزلة، وباتت شعارات الردة والزندقة والهرطقة والخروج عن الإجماع الشيء الوحيد المُجمع عليه، وصار الفقه والتكفير توأمٌ لا يفترقان.! لذا لا ينبغي لإحد أن يستغرب ظاهرة الإرهاب التي اصبحت متجذرة وأسلوب حياة عند الكثيرين، وقل نفس الشيء في فتاوى التكفير ضد المثقفين المتحررين من عبودية السلف والتراث، وبقية المبدعين في مختلف المجالات، فهذا أمر طبيعي ومنطقي ومتوقع طالما أننا أرحنا عقولنا لأقوال الآباء ولأجداد، الذين وقفوا في وجه الحداثة والتطور، وأغلقوا باب الاجتهاد، ورؤوا أن الدخول في عصر الانحطاط، عصر الجمود والتكرار والاجترار أولى وأهم .! إننا نكاد نجزم بأن قراءة الرسول الكريم (ع) كانت مختلفة عما افترضه الفقه التراثي، لكن علم السُنّة الذي نشأ بعد مائة عام من اكتمال الشريعة، ولا يعترف بمنهجية العلم، وينتحل لنفسه صفة القداسة، عاد فاكتشف أنها لا تزال ناقصة! إننا نقطعُ بأنَّ إعادة قراءة آيات التنزيل الحكيم بعيداً عن كتب الحديث المُمتلئة بالإسرائيليات، وألطم والرمم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير، ولن نزيد، كمصدر للدين والعلم، بغية دحض الأغاليط فيه، وكشف المطموس منه، ليست مهمة معرفية نبيلة فحسب، بل هي أصلاً معركة أساسية بين الشرك بكل مظاهره والتوحيد، ومع ما في هذه الحقيقة من مفارقة، فإنها وللأسف الشديد لم تتغلغل في الأعماق بعد! وأخيراً فإنَّ دعوتنا للعودة- إلى التنزيل الحكيم دون غيره- القصد منها كشف الحقائق في ذاتها لا في سبيل ذاتنا، أو نصرة رأينا وهزيمة الرأي الأخر،إننا نؤمن بأن الجِدال بالتي هي أحسن، والدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة سيدخلنا جميعاً إلى قلوب الناس برفق، ونؤلف القلوب النافرة بلطف ولين، فلا حشو ولا لَغْوَ في آيات التنزيل الحكيم، فقوله تعالى واضح وضوح الشمس: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل: 125)