نشرت في .May 20, 2015

عُرفت العبودية منذ أزل التاريخ، و لم تكن مقتصرة على أمة دون غيرها، فقد عرفت عند أكثر الحضارات القديمة تطوراً في أزمانها كالإغريق والرومان، وكذلك عرفت عند العرب ولعل سوق الكرخ للنخاسة هو أحد الأمثلة التي تجسّد ذلك.
ي عصرنا الحالي تغيّر معنى العبودية، واختلفت مظاهرها واتخذت أشكالاً جديدة، لعل منها "العبودية الفكرية"؛ أن يكون الشخص حراً في ماله ونفسه وكل ما يملكه، لكنه مقيد بقيود خفية تسيطر على أفكاره وتحدد توجهاته وتؤطّر دماغه وتقوده تؤدي إلى نتائج محددة موضوعة مسبقاً، ولم تكن نتيجة محاكمته العقلية الخاصة، لكنه سيتبناها وكأنها قناعات و مسلّمات راسخة.
هذا النموذج من العبودية هو ما يسعى الحاكم المستبد لترسيخه  كي يثبت حكمه و يمنع أي محاولة للخروج عليه أو حتى نقده، ذلك أن أساسات حكم المستبد هي القوة فقط، وبالتالي هذا الحكم هشّ إذا ما نزعت عنه صفة القوة وخضع للتقييم والنقاش العام، لذلك يعمل المستبد على تغليف عقول محكوميه بأفكار مثل قدسية حكمه، وأنه المؤتمن الوحيد والأوحد لحكم البلاد، خاصة أمام "المؤامرات" التي تحاك ضده وضد شعبه، ويستعين على ذلك ببث الخوف من مجهول قادم يتربّص بالعباد والبلاد، ثم يطرح نفسه محام لهم منه، وهذا ما  لخصّه مونتيسكيو في كتابه روح الشرائع " قانون التربية في الحكومة المستبدة هو الخوف ".
في خضم ثورات الربيع العربي التي خرجت للتخلص من الديكتاتورية و الاستبداد لم يستطع الكثير من الناس التخلص من العبودية للمستبد كما يحدث في سورية. والبعض الآخر انتقلت عبوديته من حاكم إلى آخر كما يحصل في مصر.
تعتبر هذه النماذج هي أفضل ما يلخصه الاستبداد، حيث إن من استطاعوا التحرر من الحاكم المستبد لا يلبث أن يبحثوا عن مستبد آخر كي يتولى زمام الحكم، وبحجة الفوضى يتم البحث عن مايسمى "المستبد العادل"، ذلك التربية الاستبدادية رسّخت بأفكار العامة ضرورة وجود فرد واحد مخلص للجماعة .
وقد ترتدي العبودية الفكرية أشكالا أخرى للتمويه، مثلاً تقديس المؤسسة العسكرية باعتبارها الجهة الشرعية المنوط بها الدفاع عن البلاد، ولعل هذا ما يفسّر تقديس للبوط العسكري وصنع التماثيل له وتقبيله على الشاشات.
حسب الامريكي مارك توين فإن العقل البشري يعمل بشكل منفصل عن صاحبه ويعمل نتيجة عوامل خارجية دخلت إليه بطريقة تراكمية تشمل التعليم التربية والدوافع، وهو ما يعمل المستبد على زرعه في أذهان محكوميه، بحيث يأصل أفكاراً تعمل على تشويه الوعي.
طبعاً لإعلام الديكتاتورية دور كبير في تشويه الوعي، مثال ذلك في عام 1916 عندما كان الشعب الامريكي مسالماً ولم يكن مهتماً أو لديه الرغبة في الانخراط في حروب وراء المحيط، لكن الرئيس ولسن كانت لديه التزامات تجاه الحرب، فأسس لجنة للدعاية الحكومية تدعى "لجنة كريل" نجحت خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى آخرين تملكتهم هستيريا الحرب والرغبة في تدمير كل ماهو ألماني . على ذلك نرى تأثير الإعلام لزرع أي فكرة يريدها الحاكم في أذهان محكوميه لترسيخ حكمه .
عندما طالبت الشعوب العربية بالحرية وقف في وجههم أبناء جلدتهم الذين يشاركونهم مصابهم ويعيشون ذات حياة العبودية في كنف المستبد، لأن الاخيرين لم يستطيعوا التفكير بأن هذا الحاكم يمكن أن يُطلب منه حق حتى ولو كان مشروعاً، بالإضافة أنه ليس من صفاتهم أن يطالبوا أو يحتجوا، بالتالي رفضوا ما طالب به أقرانهم، وعملوا على محاربتهم. وقد يبررون صمتهم واستكانتهم خوفاً من القادم المجهول، باعتبار التغيير سيجلب أموراً مجهولة.
إن الخضوع للمستبد والديكتاتورية لا يجلب سلاماً ولا أماناً -وإن كان هذا هو الظاهر مرحلياً- بل إنه مفتاح للخراب والفوضى الذي يتراكم تباعاً حتى يصل – لا محالة- لنقطة الانفجار، وحينها سيستبسل الحاكم بالحفاظ على حكمه حتى على حساب من استعبدهم أو عبدوه طواعية، شعار "الأسد أو نحرق البلد" لم يكن مجانياً بالمرة، بل هو نتيجة طبيعة لرضى المعبودين بأن الحاكم هو الوطن، فإن طاح أحدهما طاح الآخر

علِّق