نشرت في .April 30, 2016

 

* حسان محمد محمود

حسان محمود.jpg

يحكم العلاقات الإنسانية ـ وكذلك في تجمعات الحيوان ـ مبدأ التكافؤ، فاختلاف الحجم أو النَّسب أو القوة أو المال يولد تفاوتاً يفضي إلى "لاتــكافؤ"، ينجم عنه سلطةٌ أو نفوذٌ.

أتى محمد عبد الوهاب إلى سورية، وغنى فيها مرتين، في دمشق حيث مارس نفوذه براحته، و في حلب، حيث خبت، بهتت هالته، وتواضعت حالته، إلى ما هي عليه في حضرة حلب.

ذاك الآتي من مصر، أوائل الثلاثينات، لم يُـؤخذ الحلبيون بوهج شهرتيه، السينمائية و الطربية، إذ لديهم ما يقولونه و "يفعلونه" لبطل أول فيلم غنائي "الوردة البضاء". لقد نشب تحدٍّ مزدوج بينه وبين فئتين حلبيتين: جمهور حلب، وخاصّتها من الموسيقيين.

 

دلف المطرب إلى حيث قرر الحلبيون أن يغني، ففوجئ بقلة الحضور، كيف يكون هكذا "العدد" وهو من هو؟

غنى مجللاً باستغرابه، وارتباكه، ثم حين فرغ قال له الحاضرون:

ـ نحن الذواقة، اختبرناك، وغداً سيأتي عامة الحلبيين.

في اليوم التالي غص المسرح بالحاضرين.

تلك هي إذن معادلة التكافؤ الأولى: للحلبيين وقتٌ لا يهرقونه فيما لا يفيد، و لو كان تمتعاً ولهواً، حريصون هم على جدارة ما يصرفون أوقاتهم في سبيله، حتى لو كان مع عبد الوهاب، بشحمه ولحمه.

كان للتكافؤ ساحةً أخرى غير ما سلف. يروي الباحث الموسيقي "صميم الشريف" عما حصل بعد فرض معادلة التكافؤ الأولى بين الضيف وعموم الحلبيين، فيقول:

"ثم دعوه لقضاء سهرة فنية حلبية ليُسمعوه روائع الفن الحلبي، أسوة بالطرب المصري الذي قدمه لهم وكان على رأس الحضور يوم ذاك الشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش. واستمع محمد عبد الوهاب مطولاً إلى وصلات من الموشحات وانتشى طرباً. ويبدو أنه أراد بعد أن خضع لامتحان فناني حلب الصعب، أن يمتحنهم بدوره ليدلل على مدى تعمقه في الموسيقا، فسألهم في نهاية السهرة التي امتدت حتى الصباح أن يسمعوه موشحات من نغمة السيكاه الأصلية التي لا تخالطها نغمة الهزام. وبهت القوم، وارتج عليهم، ولكن الشيخ عمر البطش وعده بأن يسمعه في سهرة الليلة القادمة الموشحات التي طلب. ودهش الشيخ علي الدرويش من الوعد الذي قطعه على نفسه الشيخ عمر البطش لأنه يعرف تماماً وهو الموسيقي العالم بعدم وجود موشحات من هذه النغمة في حلب وفي القطر كله.

اختلى الشيخ علي الدرويش بعمر البطش بعد انصراف محمد عبد الوهاب، وجرى بينهما نقاش طويل وحاد، قال عمر البطش في نهايته:

ـ سأضع هذه الموشحات بنفسي فوراً، لأريه أن الفن في حلب لا يعلو عليه أي فن آخر في أي قطر عربي.

وعكف الشيخ عمر البطش على العمل حتى أنهى نظم وتلحين عدد من الموشحات من مقام السيكاه الأصلي الذي لا تخالطه نغمة الهزام، ثم استدعى جماعة المنشدين وقام بتحفيظهم إياها. وكان من أجمل تلك الموشحات، موشحة "رمى قلبي رشا أحور". واستمع محمد عبد الوهاب في المساء إلى تلك الموشحات مبهوراً بنغمتها ولحنها ونظمها.".

هكذا بطشَ البطشُ بوهم التفاوت، والباطشان: عــمر، وحلب.

علِّق