استغلت الكتلة الوطنية الحاكمة التأييد الشعبي لها، بعد توقيعها معاهدة الاستقلال في أيلول 1936 أسوا استغلال، حتى أطلق على حكمهم( حكومة المزرعة ) بسبب استحواذهم على المغانم والمنافع هم وأنصارهم، وقد فرضت هذه الكتلة سيطرتها وخنقت كل نفس معارض، وماطلت في العفو عن السياسيين الذين أبعدتهم فرنسا إلى ما بعد قيام الحياة البرلمانية بزمن طويل، ومنهم الشخصية الوطنية المعروفة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وزملاؤه، مع أنهم كانوا من خلاصة العناصر الوطنية الثورية التي قارعت الفرنسيين، وعارضت المعاهدة لانتقاصها من السيادة السورية، ومن هذا ما يذكره خالد العظم من تأكيده لفارس الخوري أثناء المفاوضات على المعاهدة، "إنّ أهم قضية يجب تسويتها هي استلام مصلحة الجمارك لتستطيع سوريا رعاية اقتصادياتها وحماية منتجاتها الزرعية والصناعية" لكن الوفد المفاوض، لم يتمكن من تحقيق أكثر من هذا.
منعت الكتلة التنظيمات الحزبية والسياسية، بحجة الإجماع على الفوز بالاستقلال، وحققت بذلك إجماع المجلس النيابي بالتوقيع على المعاهدة في 26- 12- 1936 من دون أن يجرؤ أي نائب على انتقادها، وتخاذلت أمام سلخ الفرنسيين لواء الإسكندرون وتسليمه إلى الأتراك معتبرين، أنّ إغضاب فرنسا قد يعيق التصديق على المعاهدة، وقد أطلق فارس الخوري حينها شعاراً يقول: " خسرنا لواء الإسكندرون ولكنا لم نخسر حقّ المطالبة به " ثمّ عكفت الكتلة الوطنية على تأليف منظمة شبه عسكرية لحماية حكمها وقمع أيّ تحرك معارض، دعتها باسم ( القمصان الحديدية ) ظناً منها أنها تستطيع الاعتماد عليها بدلاً من الجيش، الذي لم يزل تحت امرة الفرنسيين، ولكنّ الكتلة الحاكمة انقسمت إلى فئة تساند جميل مردم في التهاون مع الإفرنسيين، وإبقاء ما يمكن إبقاؤه من بنود المعاهدة والاستمرار في الحكم، وفئة أخرى رفضت الملاحق التي قدمها الفرنسيون لتكبيل الاستقلال، وخيّرت الفرنسيين بين استمرار التفاهم النزيه معهم، وبين انسحابهم من الحكم والانضمام إلى صفوف المعارضة، لكنّ الفرنسيين مالوا إلى المماطلة، فعمت التظاهرات، وأمام التمسك بكرسي الحكم أطلق فارس الخوري شعاره " قرية مستقلة خير من بلاد واسعة مستقلة " .
استنفذت هذه السياسات المتهاونة أمام الفرنسيين رصيد الكتلة الوطنية، وعندما تهرّب رئيسها جميل مردم بالإجابة على طلب من رئيس مجلس النواب فارس الخوري، لاطلاع المجلس على توافقاته الملتبسة مع الفرنسيين ، أعلن الخوري إن المجلس لا يستطيع إلا أن يرفض موافقة الحكومة على تعديل المعاهدة، ومع استمرار هذه الحكومة بالنهج لاستسلامي واستمرار الفرنسيين في المماطلة والتآمر على وحدة البلاد، تصاعدت النقمة الشعبية وعمت التظاهرات انحاء البلاد، فاضطرت حكومة مردم إلى الاستقالة ، ومع تشكيل وزارة جديدة واتفاق أحد أركانها مع المندوب السامي( بيو ) على إصدار بيان، يؤكد حرص فرنسا على تصديق المعاهدة، سافر(بيو ) في اليوم الثاني إلى بيروت معلناً من هناك 12أيار1939 نكوص فرنسا عن تعهداتها. فاستقالت الحكومة الجديدة وأصدر المفوض السامي قراراً 9- 7- 1939 بحل مجلس النواب وتعليق الدستور، فانطوت بذلك صفحة معاهدة 1936 و تمّ إجهاض الثورة الشعبية العارمة، التي جسدها إضراب الستين يوماً ، وكان من أهم قادة المعارضة الزعيم عبد الرحمن الشهبندر، الذي قاد المعارضة الشعبية من منفاه في مصر، وعندما عاد في 21- 2- 1938 استقبلته دمشق بحشود شعبية لا سابق لها، الأمر الذي حدا بحكومة المزرعة بفرض الإقامة الجبرية عليه، ولم تلغها إلا بضغط شديد من الاحتجاجات الشعبية الواسعة، وربما يشير هذا إلى حادثة اغتياله اللاحقة 6 تموز 1940، واتهام الشيخ الكتاني وجمعيته الغراء الموالية للكتلة الوطنية، وإلى جميل مردم وسعد الله الجابري ولطفي الحفار الذين فروا إلى العراق، لكن المحكمة الفرنسية برأتهم واكتفت بإنزال العقوبة بالمنفذين.
بعد سقوط باريس تحت الاحتلال النازي وإعلان حكومة فيشي، شهدت سورية اضطرابات شديدة احتجاجا على سوء الحالة الاقتصادية وعلى ما تفرضه حكومة الاحتلال من أتاوات، وعلى توقيع جميل مردم امتياز اتفاقيتي البترول والبنك السوري إرضاء للفرنسيين من أجل إبقائه في الحكم، وأمام سكوت حكومة الكتلة وتهرّبها من مسؤوليتها في هذا التردي العام، وأمام تقويض الفرنسيين للمعاهدة، وتحميل وزرها للمعارضة التي كانت قد رفضتها أصلاً، أعلن شكري القوتلي بياناً يدعو فيه إلى الإضراب العام ، جاء فيه: " منذ سنتين، وهذه البلاد تعاني مساوئ حكم مباشر، تقهقرت فيه أوضاعها وأهينت كراماتها وجرحت عزتها. الحكم الاستثنائي، الذي تشترك فيه سلطات متداخلة: الدوائر الفرنسية السياسية والعسكرية والإدارية والاستخبارية وحكومة لا تجدر بأن يطلق عليها هذا لاسم، من موظفين مصطنعين لا تربطهم بهذه الأمة رابطة، ولا يشاركونها عاطفة ... قد جمعوا من هنا وهناك ليعبثوا في شؤونها، ويكيدوا لأبنائها، ويعينوا على الإضرار بها والإساءة إليها، فكان من هزل الأيام ونكاية الأقدار ان توكل إليهم شؤونها "
وحين اجتاحت قوات الحلفاء سوريا في حزيران 1941 أوكلت امورها للجنرال كاترو الذي حكم باسم حكومة فرنسا الحرة، أذاع بياناً باسم الجنرال ديغول، أعلن فيه استقلال سوريا المشروط، بعقد معاهدة مع فرنسا .
علِّق